الغارقون

لا يمر يوم، إلا ونقرأ أو نسمع، عن غرق عدد من هؤلاء المهاجرين غير الشرعيين، وهم يحاولون عبور البحر الأبيض المتوسط. الأعداد التراكمية وفيرة، ولكن الأسماء، غير متوفرة، فهؤلاء لا أحد، إن كانوا في بلادهم الغراء، أو في قبضة عصابات تهريب البشر، أو في البحر، ويصبحون أحدٌ ما عندما تتسلمهم، دورية حراس الشواطىء، لتبدأ رحلتهم مع إستخدام ثقافتهم الماضية، في تفعيل سلوكيات الإستفادة، من قوانين اللجوء الباذخة بالنسبة لهم، التي تتمثل بالإستفادة بأقصى حد ممكن من العطاءات القانونية للبلاد (الدول) التي استقبلتهم، مع ممارسة سلوكيات تتشابه مع سلوكياتهم السابقة التي حملوها معهم من بلادهم (اللا دول)، والفارق هنا، أن هذه الدول، واللادول، صنعتها الشعوب، التي تتساوى في الإمكانيات في تفعيل بناء المجتمع، وتوليد الدولة، وعليه فإن عملية تحديد القاتل لهؤلاء الغرقى، تصل دائماً إلى توزيع دمه على القبائل، حيث لا قاتل ولا حتى قتيل، وهذا كله من قبيل الدورة الطبيعية للحياة، فالسمك أيضاً يحتاج إلى طعام.

هذا يقودنا إلى السؤال عن المسؤول عن إقامة الدول، واللادول، وهنا أيضاً تضيع مسؤولية تأسيس الدولة (المعاصرة)، وتوزع على القبائل، وتبقى الأولوية لإنقاذ الإنسان الفرد في الدول، وترك الإنسان في الحضيض في اللادول، مع قناعتنا الجمعية أن الشعوب هي من تؤسس للدول ولللادول، والفارق هنا ثقافي فقط وبالضرورة، ليس على صعيد الكرامة الفردية أو الجماعية فقط، بل والأهم هو ضمان الحياة نفسها، وقد صار من الإجترار إعادة المقارنات بين هذا وذاك بل نكتفي بمثال الكوريتين، كأنموذج ثقافي استطاع أن ينسج تجربتين متناقضتين بخصوص السلوكيات المجتمعية، من ناحية تفعيل الإمكانيات البشرية ، ولما تزل الجنوبية تمارس المساواة ( وليس تنظر بمساواة فقط) مع «جارتها» الشمالية، بينما الأخرى تنظر بعين العداوة للجنوبية، وهاتان دولتنان صنعهما الشعب الواحد، حيث يغامر الشماليون بحياتهم للخروج من تحت سيادة اللادولة، بينما الجنوبيون يحصلون ببداهة على حق الكرامة الإنسانية.

المقصود هنا، هو وعي المصالح ووضوحها ، وليس الوعي الثقافي، فالنماذج الناجحة، التي لا تنتج «غرقى»، واضحة ومجربة وناجحة، في المقابل هنا من ( يتعلم الحلاقة بالحمير الشاردة)، وهناك شعوب قبلت وتقبل، إستخدامها كرهائن، تقتلهم اللادولة وتحييهم وفق أجندها السلطوية، فالعيش الحر الكريم هو هدف الشعب الذي يفترض أنه المولّد للدولة، أو اللادولة، وعليه فإن غرقى البحار، هم خسائر جانبية لا تذكر، لتبقى مسؤلية التغريق على عاتق أمواج البحر العالية، التي تقلب مراكب الشعوب، التي طالما حلمت بعالم أكثر إنسانية ( حسب الشرعة العالمية لحقوق الإنسان) التي وافقت عليها جميع لادولهم، ولا تمارسها وهم صامتون، أو مرتدون إلى مرحلة ثقافية أدنى، ومع ذلك يريدون من الحياة أن تتحسن، ولكنها تسوء، إلى حد يبدو فيه أن الموت أرحم، أوليس في السودان نموذجاً باهراً «يا أولي الألباب»؟، أوليس هناك من كرر تجربة هذا البلد التعيس المفعم بالكنوز والخيرات؟، من الواضح أن التجربة تتكرر، ولسوف تتكرر، إبتداءً من الرئيس الأبدي الملهم، الذي يخلط بين المافيا والدولة، كنوع من التهجين الثقافي القادر على التهجين، وإنتهاء بالشعب الصامت الذي مهما كانت جعجعته عالية، يبقى طحينه شحيح.

في الحقيقة، لقد قتل هؤلاء الغرقى أنفسهم، وإذا نجحوا في الوصول، سيقتلون المجتمعات التي استقبلتهم، بممارسة سلوكيات ثقافتهم التي تؤدي إلا قتلهم مرة أخرى ماديا أو معنوياً وحتى أخلاقياً، (لا أقصد فلكلورياتهم، وآدابهم وفنونهم)، إنهم من تخلى عن حقه بالكرامة، هارباً من إستحقاقاتها ناجياً بنفسه من إرهابها، وفي نفس الوقت حاملاً أعطابها، وكأنه يريد أن يعيد تجربة المهانة مرةً أخرى ( لا يمكن عدم ملاحظة ممارسات المهاجرين من عرب وغيرهم، في أوربا والبلدان الأخرى)، وكأنهم ببمارساتهم هذه يتشوقون إلى اللادولة، بإسم الديموقراطية وحقوق الإنسان، كمن يدافع عن حقه بأكل الغائط، من هذا الباب، حيث ستواجَه هذه الممارسات بإجراءات شديدة، سرعان ما ترتفع عقيرتهم بالشكوى من العنصرية، بعد أول طلب إليهم لدفع ثمن بطاقة الميترو.

مسألة الغرق هذه، تدور في حلقة مفرغة، دون أية وقفة للتعقل، فهؤلاء الغرقى يريدون أن يحافظوا على اللادولهم، شرط أن يتم إستثنائهم من مجريات، فشلها، وهذا مستحيل، إلا في حالة واحدة، هي إعتبار اللادولة، دولة حقيقية، مع بعض الإستثناءات اتي تعطي أهمية قصوى للخصوصية المتفردة، أي ما يمكن إعتباره مقاربة مسموحٌ بها مع المافيا، التي يمكن التعاطف معها، حسب مجريات فيلم العراب، وبالتالي القبول بالعبودية،كثقافة يمكن حملها، إلى أي مكان،  في تمثل عميق لعدم فهم الدولة واللادولة، يظهر دائماً وبشدة في سلوك هؤلاء الغرقى، إن كانوا من الناجين أو تحولوا طعاماً للأسماك.

لقد أظهرت «الثورات العربية» مكمن العطب، أن هذه الشعوب متمسكة بتراث اللادولة، ولن تتخلى عنه، إلا بغرق فخيم تتكلم عنه الصحافة والسوشال ميديا، كشهداء في سبيل ممانعة وجود الدولة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *