لم يعد مفهوم «الواقعية» ـ في الخطاب السياسي العربي المعاصر ـ مجرد مصطلح يحاول توصيف علاقة الشعوب بميزان القوى الدولي، بل تحوّل إلى غطاء نظري تُمرَّر من خلاله مسارات تنازلات كبرى، تتّخذ من «العقلانية» والبراغماتية و«الضرورة» شعارات لتبرير الانتقال من موقع الصراع مع إسرائيل إلى موقع التعايش معها، وصولًا إلى الاندماج في مشاريعها السياسية والأمنية والاقتصادية.
ومع تصاعد موجات التطبيع منذ العقود الماضية وصولًا إلى السنوات الأخيرة، صار من الضروري تفكيك هذه «الواقعية» المزعومة وسؤالها مباشرة: هل التطبيع يُنتج استقرارًا وتنمية؟ أم أنّه يتحوّل إلى بوابة سيطرة إسرائيلية ناعمة وخشنة في آن؟
أولًا: الواقعية بوصفها خطابًا وظيفيًا
الطرح الذي يروّج له البعض اليوم يقوم على قاعدة بسيطة:
بما أنّ الصراع لم يحرّر فلسطين، وبما أنّ الأنظمة السابقة فشلت، وبما أنّ العالم تغيّر، فإن «الواقعية» تفرض التفاوض والتطبيع.
لكن هذه «الواقعية» نفسها تتجاهل ثلاث معطيات حاسمة:
1 ـ أنّ إسرائيل لا تقدّم اتفاقات سلام، بل ترتّب منظومات تبعية تعطي الأطراف العربية بعض المكاسب الشكلية مقابل فتح أسواقها وقرارها السياسي والأمني أمام تل أبيب.
2 ـ أنّ التطبيع يأتي دائماً في لحظة ضعف عربي، وليس في لحظة قوة، وبالتالي يكون أشبه بعملية استسلام تدريجي لا يلبث أن يتحوّل إلى خضوع كامل.
3 ـ أنّ إسرائيل نفسها لا تنظر إلى التطبيع كمسار إنهاء للصراع، بل كوسيلة لتحويل الدول العربية إلى بيئة تخدم مشروعها السياسي والاقتصادي والأمني.
لهذا، لا يمكن اعتبار التطبيع «واقعية سياسية»، بل هو ـ في كثير من الحالات ـ إعادة تموضع وظيفي لأنظمة فقدت شرعيتها أو تبحث عن حماية خارجية.
ثانيًا: التجارب العربية… من الاستسلام إلى التآكل الداخلي
1 ـ مصر بعد كامب ديفيد (1978 ـ حتى اليوم)
تُرفع اتفاقية كامب ديفيد عادةً كسيف في وجه كل من يرفض التطبيع، باعتبار أنّ مصر «استعادت سيناء وأوقفت الحرب».
لكن الواقع أظهر أن الثمن الحقيقي كان:
تقييد كامل للدور الإقليمي المصري وتحويل أكبر دولة عربية إلى لاعب ثانوي.
ربط الاقتصاد المصري بشروط المساعدات الأميركية ـ الإسرائيلية، ما أدى إلى انكشاف مالي وسياسي مزمن.
تغلغل نفوذ الشركات الإسرائيلية في قطاعات الطاقة والزراعة، وصولًا إلى الغاز الذي تستورده مصر من إسرائيل رغم امتلاكها حقولًا ضخمة.
تغييب الوعي العام وتفكيك البنية الثقافية والعقائدية للصراع.
والنتيجة أنّ التطبيع أنتج مصر أضعف من مصر ما قبل 1978.
2 ـ الأردن واتفاقية وادي عربة (1994)
قيل إنّ الأردن اختار “السلام” لتحسين اقتصاده وفتح علاقات دولية.
لكن الحصيلة:
ـ تغلغل استخباراتي إسرائيلي في قلب المؤسسات الأردنية.
ـ تحوّل وادي عربة إلى وسيلة لضبط القرار الأردني ومنعه من أيّ تموضع خارج الإيقاع الأميركي.
ـ استنزاف مائي خطير عبر مشاريع مشتركة منحازة بالكامل لتل أبيب.
ـ إضعاف الهوية الوطنية الأردنية عبر هندسة ديموغرافية تحاول فرض حلول على حساب الشعبين الأردني والفلسطيني.
الأردن اليوم يعاني من أزمات اقتصادية عميقة، وتهديد دائم من فكرة «الوطن البديل» ـ وهي فكرة لم تكن لتُطرح لولا تسلل النفوذ الإسرائيلي عبر بوابة التطبيع.
3 ـ دول الخليج واتفاقيات أبراهام (2020 ـ 2023)
قدّمت الأنظمة الخليجية التطبيع كمدخل لتقنيات مبتكرة واستثمارات ضخمة وحماية سياسية ـ لكن النتائج ظهرت سريعًا:
ـ اختراق أمني إلكتروني إسرائيلي غير مسبوق داخل المؤسسات الحيوية.
ـ هيمنة إسرائيلية على قطاعات الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني في المنطقة.
ـ تحويل الخليج إلى سوق مفتوحة أمام رأس المال الإسرائيلي من دون أيّ مكاسب موازية.
ـ انكشاف أمني جعل الدول مرتبطة مصيريًا بالقرار الإسرائيلي ـ الأميركي.
والأخطر: بدأ التطبيع يُعيد تشكيل البنية الثقافية والاجتماعية نفسها عبر حملات إعلامية ضخمة تهدف إلى إعادة كتابة التاريخ وبناء وعي جديد يعتبر إسرائيل «شريكًا طبيعيًا».
4 ـ المغرب… التطبيع على حساب السيادة
في المغرب، كان الثمن مباشرًا:
«اعتراف أميركي بالصحراء الغربية مقابل التطبيع مع إسرائيل»”.لكن النتيجة:
- تزايد النفوذ الأمني الإسرائيلي داخل المؤسسة الأمنية المغربية.
- تفعيل مشروع اختراق اجتماعي وثقافي عبر شبكات ناعمة.
- أزمات سياسية داخلية ناتجة عن رفض قطاعات واسعة من الشعب للتحالف مع تل أبيب.
أي أنّ التطبيع لم يُعزّز السيادة، بل قايض السيادة بغطاء دبلوماسي هشّ.
5 ـ تركيا والأكراد… تحالفات أمنية لا تنتهي
تركيا ـ رغم خطابها السياسي المتأرجح ـ حافظت على علاقات متينة مع إسرائيل منذ 1949.والنتيجة:
- اختراق استخباري واسع.
- تحكم إسرائيلي في جزء من قطاع السلاح والتقنية التركي.
- علاقة وظيفية لا متكافئة يستخدم فيها الطرفان بعضهما، لكنّ إسرائيل تبقى المستفيد الأكبر دائمًا.
أما القوى الكردية في العراق وسوريا، فالعلاقة مع إسرائيل تُستخدم دائمًا كأداة ضغط وجسر لتفتيت المنطقة.
ثالثًا: التطبيع بوصفه مشروعًا لإعادة تشكيل المنطقة
تُظهر التجارب المتعددة أنّ التطبيع ليس اتفاقًا بين دولتين بقدر ما هو: إعادة هندسة سياسية للقرار الوطني وإعادة هندسة اقتصادية لتحويل الدولة إلى سوق للمنتجات الإسرائيل ـ أيضا هو إعادة هندسة أمنية تجعل الأمن الداخلي مرتبطًا بالتكنولوجيا والاستخبارات الإسرائيلية ـ كما هو إعادة هندسة اجتماعية تهدف إلى خلق وعي جديد يقبل بإسرائيل كقوة «شرعية» في الإقليم.
هذه الهندسات مجتمعة تنتج خضوعًا ناعمًا لا يقلّ خطورة عن الاحتلال العسكري، بل يتفوّق عليه لأنه الاحتلال الوحيد الذي لا يحتاج إلى جنود.
رابعًا: التطبيع بوصفه بابًا لإعادة استعمار الثروات
هي النقطة الأخطر، وهي جوهر المسار من خلال
1 ـ السيطرة على الطاقة والغاز فكل دولة طَبَّعت وجدت نفسها لاحقًا:
تستورد الغاز من إسرائيل وتربط بنيتها الطاقوية بشبكات إسرائيلية، وتفقد استقلالها في تقرير سياساتها الطاقوية.
بهذا يتحول التطبيع إلى استعمار للطاقة، وهو أخطر من أي معركة عسكرية.
2 ـ اختراق الموارد عبر «الاستثمارات المنقذة» فالشركات الإسرائيلية والغربية تدخل تحت عنوان «التطوير» لتستحوذ على: المياه، الزراعة، لأمن السيبراني، المرافئ والمطارات،
كل هذا يعني تحويل الثروات العربية إلى مواد خام في خدمة اقتصاد الاحتكار الغربي ـ الإسرائيلي.
3 ـ تحويل الأسواق إلى امتداد للاقتصاد الإسرائيلي
التجارب كلها تؤكد أنّ: إسرائيل تصدّر التكنولوجيا، وتستورد المواد الخام، وتربح الأسواق العربية دون أي مكاسب مقابلة ـ وهذه ليست شراكة، بل ضمّ اقتصادي.
4 ـ التحكم بالقرار السياسي عبر الاقتصاد عندما تصبح إسرائيل والغرب مصدرًا:
للطاقة، وللاستثمارات، والتقنيات، وأيضا للبنى التحتية، مما يجعل من الدول العربية أسيرة قرار سياسي مستورد.
خامسا: لماذا تُطرح «الواقعية» اليوم؟
لأنّ المنطقة ـ وخصوصًا سوريا والعراق ولبنان ـ تعيش لحظة إنهاك تاريخي:
حروب، انهيارات اقتصادية، انقسامات اجتماعية، وغياب بدائل، وطنية، واضحة.
فيصبح التطبيع بالنسبة للبعض “طريق خلاص”، بينما هو في الحقيقة تكريس لنتائج الهزيمة لا تجاوز لها.
إسرائيل تفهم هذا جيدًا ـ لذلك تعمل على: فرض التطبيع بوصفه شرطًا لأيّ إعادة إعمار.مما يحول شعار «الواقعية» إلى سلاح نفسي يُستخدم لإقناع الشعوب بأنّ الاستسلام هو الحل الوحيد المتبقي.
سادسًا: نحو واقعية حقيقية… وليست استسلامية
الواقعية الحقيقية ليست قبول ميزان القوى كما هو، بل قراءة هذا الميزان وتغييره تدريجيًا عبر:
بناء اقتصاد ذاتي مقاوم وإعادة الاعتبار للقرار الوطني المستقل ـ وخلق تحالفات بديلة خارج الهيمنة الأميركية ـ الإسرائيلية وتعزيز الهوية الثقافية والاجتماعية التي تحمي الوعي من الاختراق.
هذه هي الواقعية التي أنتجت انتصارات شعوب كثيرة عبر التاريخ.
أما «واقعية التطبيع» فهي وصفة جاهزة لإدامة التبعية.
والاسئلة الموجبة اليوم الاتي: هل نجت البلدان المطبّعة من الفقر، أو من التبعية الاقتصادية، أو من الانهيار الاجتماعي؟ وهل تحوّل التطبيع إلى تنمية؟ ام ارتفع دخل المواطن أو تحصّن الأمن القومي؟
الجواب واضح أمام الجميع: أمن إسرائيل تعزّز، وموارد العرب
استُنزفت، بينما الشعوب ازدادت فقراً وضعفاً.
والقوى التي تريد «إعادة برمجة اوطاننا» ليست جمعيات خيرية، بل مشاريع نفوذ تريد الأرض والثروات والقرار ـ والقول إن «إسرائيل واقع» ليس تحليلاً سياسياً، بل ترويج لإذعان وذل وخنوع مخزي.
التطبيع ليس خيارًا عقلانيًا ولا ضرورة وطنية، بل خيار وظيفي يخدم إسرائيل أوّلًا، ويرهن الدول العربية لمعادلات القوة الخارجية ثانيًا، ويُعيد تشكيل المجتمعات من الداخل ثالثًا.
إنّ أخطر ما في التطبيع ليس توقيع الاتفاق، بل تحويل الهزيمة إلى قناعة، والخضوع إلى ثقافة، والاحتلال إلى «واقعية».
ولذلك فإنّ رفض التطبيع اليوم ليس موقفًا عاطفيًا ولا شعاراتيًا، بل موقفٌ دفاعي عن استقلال الشعوب، وعن هوية المنطقة، وعما تبقّى من معنى السيادة في عالم يُعاد تشكيله على مقاس القوة لا على مقاس الحق.

