أنت لو قمت بزيارة طبيب، أيِّ طبيب، لوجدت أن زائرين مثلك كانوا قد زاروه قبلك، وزائرين مثلك سيزورونه بعدك.
ولو أنك دخلت قاعة سينما، أيَّ سينما، لوجدت أن داخلين مثلك كانوا قد دخلوها قبلك، وداخلين مثلك سيدخلونها بعدك.
ولو أنك قصدت مسبحاً، أيَّ مسبح، لوجدت أن قاصدين مثلك كانوا قد قصدوه قبلك، وقاصدين مثلك سيقصدونه بعدك.
ولو أنك تفقدت مقبرة، أيَّ مقبرة، لوجدت أن متفقدين مثلك كانوا قد تفقدوها قبلك، ومتفقدين مثلك سيتفقدونها بعدك.
أما لو أنك زرت سمير جعجع، الذي من بشري -وهو، لحسن حظها، لا يقيم فيها- فلَمَا كنت عثرت على زائرين مثلك كانوا قد زاروه قبلك، أو زائرين مثلك سيزورونه بعدك. وتسأل لماذا؟ الأمر بسيط جدا:
فمنهم من يكون قد زاره قبلك، ومنهم من سيزوره بعدك.
هذا هو مسار الحياة الطبيعية، للناس العاديين. فهؤلاء يشبِهون بعضهم بعضا، في السعي والحاجة. في السعي والحاجة يكتمل الإنسان العادي:
فإذا لم يكن بإمكانك تخطّي من يشبهونك إلى من هم لا يشبهونك، فما الحاجة إليك ساعتئذ في محيط أكثره لا يشبهك، أو يريد التَّشبُّه بك أصلا. هناك أمر غير طبيعي يدور حول هذا الشَّبه والتَّشبه اللذين يقودهما مهووسون منحرفون، قِلما تجد لهم مثيلا كهذا الذي تجده في لبنان.
ألا تسمعهم يقولون، ويردِّدون، وبعجرفة مبتذلة لا نظير لها: هؤلاء من الناس يشبهوننا، وهؤلاء ممن لا يشبهوننا… اِبقوا في مناطقكم حيث أنتم… لا تقربوا من مناطقنا… حتى لكأن مناطقهم هي حكر عليهم، محرَّمة على من لا يشبههم، أو لكأن التشبه بهم أصبح هو المعيار لكي تكون مواطنا صالحا في بلدك.
أخبَرني في ماضي الأيام شابٌّ فتي، خلوق، حسن الهيئة، متأجِّج الذكاء، من أصل نيجيري، أنه قصد لبنان مَرَّة ليقاتِل في صفوف مقاتلي الجبهة اللبنانية، أيام كانت الحرب الأهلية مُستعِرة في لبنان. لكنه، وما أن قصد إحدى كنائسهم للصلاة فيها، فإذا بصف المقاعد الذي أّخذ لنفسه مقعدا فيه، يفرغ بكامله من الجالسين عليه. هذا كان في كنيسة، والوقتُ وقتُ صلاة. مبتسما، سموحا، لكن متقزِّزا، كان الشاب قد أخبرني بما أخبرني لمّا جمعتنا مناسبة عمل في المغترب الذي جمعنا، مذ عرف أني لبناني. هو تقزَّز سموحا، مبتسما، يخبرني بما أخبرني، وأما أنا فقد شعرت بأني أَحقَر من حشرة، إذا ما كان هذا اللبنان الذي حدَّثني عنه هو نفس لبنان الذي يجمعنا.
هذا الشاب ذهب يقاتل في جبهتهم، مُتغرِّبا عن أهله ووطنه، فعومل بمثل هذه المعاملة. تصور الآن كيف سوف تكون معاملة مَن وقف يعارضهم، لا يريد التّشبه بهم، ولا مشاركتهم حروبهم، ولا حتى كنيستهم أصلا.
أو تصوَّر نفسك الآن وقد استيقظت صبيحة يوم، فإذا بك تشبه ذاك الذي اسمه شارل جبور، أو كان قد لزِمَك عارض التشبه به ــــ تصوّر هذا، ثم تصوّر النعم التي سوف تهبط عليك تغمرك من كل جوانبك، لمجرد أنك أصبحت تشبهه، أو أنك ودَدت التشبه به. ألا بئس التّودد هذا، وبئس الشَّبه، والمُشبه به. فهذا المخلوق بات يصبح ويمسي وهو يعيِّرنا كيف فاتنا الحظ يوم ولدتنا أمهاتنا نسخا لا تشبهه. ألا بئس المَولِدُ لو وُلِدنا نسخا عنه تشبهه، ونعم الموتُ ولا ذاك الشَّبه.
شارل جبور هذا يريد حرمان الذين لا يشبهونه الاقتراب من مناطقه. “اِبقوا حيث أنتم” يقول لهم، فلقد أصبح له مناطق خاصة به وبأشباهه في هذا الوطن، لا نعلم من سمح له بهذا، وبأي حق يكلمنا هكذا. وقريبا مع موعد الانتخابات النيابية القادمة، أعلن سيِّده، شبهه، الرمز الذي يُتَشَبَّه به، سمير جعجع، أنه لا يريد منافسا له ينافسه في بشري، في الانتخابات النيابية القادمة، فمنافسته هناك قد توحي بأن بشري حبلت أمهاتها بأناس لا يشبهونه، يريدون منافسته. ويا للعار لو أن بشري كانت قد انزلقت إلى مثل هكذا منزلق. فصورة بشري التي يُفتخر بها يجب أن تكون على صورته، وإلا فبشري تغامر مضحيَّة بصورتها الفخورة بها. ومناشدا الموارنة عموما، أينما كانوا، فقد أوصاهم حفظ صورته، صورته وحدها، أو صور من ينتدبهم عنه ممن يشبهونه، أو يَتشبهون به، كي يقترعوا لهم، في الانتخابات النيابية القادمة، لا معارضين، ولا معارضة. ولو ظهر له من يعارضه، فهذا هو “السوسة” الضارة التي في الخشب، وسوس الخشب على ما يقال هو منه وفيه.
تصوَّر الآن كم سوف تكون سعادة الناس لو استيقظوا ذات صباح ليجدوا شبها آخر أضِيف لأشباه سمير جعجع، وكم سوف تكون فرحتهم بهذا الشبه! ألا ليت انقضت الساعة، فما حدث أن رأى الناس له شبها.
وأما لو زرت أشرف ريفي الذي من طرابلس…
وأما لو زرت أشرف ريفي، الذي من طرابلس؛ وهذا، ولسوء حظ هذه المدينة يسكن فيها، فهو صِنو سمير جعجع، لكن السُّني، الذي على الساحل، بدل ذاك الماروني الذي من الجبل ــــ فلو زرته أيضا، زيارة مريض يتطبَّب في مستشفى؛ أو دخلت عليه، دخول مرفِّه عن نفسه في سينما؛ أو قصدته، قصْدَ من يقصد المسبح تحفيزًا لنشاط عنده، أو استعادة لطاقة فيه؛ أو تفقدته، تفقد آسٍ في قلبه أسًى على فقيد في مقبرة، فلن تجد أن أحدا آخر مثلك كان قد سبقك إلى مثل كل هذا أيضا، أو أن أحدا مثلك سوف يلحق بك من بعدك كذلك. السبب؟ إليك السبب:
السبب هو أن من أهل السنة من أرادوا لأنفسهم أشباها يشبهونهم، أو يتشبهون بهم أيضا، ولما لم يجدوهم فإذا بهم يَتَمَوْرَنُون، على شاكلة سمير جعجع، وشارل جبور، وأشباههما. وتصور الآن فرحة الناس ببنيان المشابهة العظيم هذا يشمخ أمام أعينهم، آخذا شكلًا كهذا، أو هكذا محتوى.
نَعَم، الزمن تبدل، ونحن ندرك ذلك، فالماء المُحّلّى من البحر أصبح شائعا، والنَّبت أصبح من الممكن تصنيعه من الهواء مباشرة. لكن، لا ظِلَّ لنبتة مصنَّعة أيًّا كان صانعها، وأشرفُ الماء ماءً ما كانت قد قطَرَتْه الأرض من ينابيعها. ألا بئس هذا الزمن، ما ترك لنا شَبَهًا نشبِهه، أو يُشبهنا.
لقد أَسْعَدوا أنفسهم بالتحولات التي جرت، وراحوا يتغنَّون بها على أنها من إنجازاتهم، فيا ليتهم يدركون أن القَشَّ لن يزيدَ وزنُه ولو قَيد أونصة واحدة لو انتشى فرِحًا وهو “يتفلفش” في الهواء منتشِرا. وأما الجمر فيبقى جمرا، ولو غطّاه الرماد. في البيت جمرٌ تحت رماد، إياكم وتحريكه، إذا ما ظننتموه مندثِرا، لأنكم لو فعلتم، فلن تستطيعوا تطويق لهيبه لو اشتعل.
أركان البحري

