لا يمكن لأوجالان الخروج من السجن، إلا من خلال هزيمة الولايات المتحدة في المنطقة والعالم، وخاصةً في منطقة غرب آسيا، والتي سيترتب عليها تغيير التوجهات السياسية التركية، ذات الطابع القومي القسري.
مرّت، منذ بضعة أيام، في الخامس عشر من شهر شباط/فبراير، الذكرى الرابعة والعشرين لاعتقال عبد الله أوجالان، الذي ما زال أسيراً معزولاً عن العالم كله، في جزيرة إيمرالي التركية، من دون أي اهتمام عالمي لقضية أسره، بفعل سيطرة الماكينة الإعلامية التي تمثل اليد الحقيقية التي أسرته، فأي شيء يمكن أن يقدمه أوجالان في حال تحرره؟ وهل هناك إمكانية لتحريره من الأسر بالأساس؟
تعرض الكرد مثلهم مثل غيرهم من شعوب المنطقة، إلى عملية تمزيق مبرمجة، على أيدي المشروع الغربي بوجهه البريطاني، كنتيجة للحرب العالمية الأولى بين القوى الإمبراطورية الغربية، واستمر أمرهم على هذا المنوال، بعد أن استلمت الولايات المتحدة الأميركية دفة قيادة الغرب، بعد الحرب العالمية الثانية. ولم يتغير وضع الكرد أيضاً، بشكل عام، على الرغم مما حصّلوه من مكاسب غير قابلة للحياة في العراق، بحكم الدور الذي ترسمه الولايات المتحدة لأغلب القوى السياسية فيه.
كان المسار العام للكرد في أغلب مناطقهم، مثلهم مثل بقية شعوب المنطقة، هو المساهمة في الصراعات البينية للقوى الإمبراطورية التاريخية -صفويين وعثمانيين- بالإضافة إلى صراعات الدول التي تشكلت بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، وهي أقرب إلى حالة الغساسنة والمناذرة في مرحلة ما قبل الإسلام، إلى أن برزت شخصية عبد الله أوجالان، بعد تأسيسه ورفاقه حزب العمال الكردستاني في تركيا عام 1978، ثم انتقاله إلى العمل المسلح عام 1984 في تركيا، من منطلقات ماركسية لينينية، تميزت بجذريتها المعادية لقوى الهيمنة العالمية الرأسمالية، وخاصة ما تمثله الولايات المتحدة و”إسرائيل” كأدوات أساسية لهذه القوى، والتي يُطلق عليها مصطلح “الحداثة الرأسمالية”.
وهو من خلال تبنيه للقضية الكردية من إطار مختلف عن الاستقطاب العائلي والعشائري، قاد المواجهة مع تركيا ليس من خلال الدافع القومي، بقدر ما يعدّه خوضاً للصراع مع “الحداثة الرأسمالية”، التي حوَّلت تركيا إلى رأس حربة لحلف “الناتو”، مقابل مكاسب قومية على حساب الكرد والسوريين.
استطاع أوجالان أن يستقطب طيفاً واسعاً من الكرد في تركيا وسوريا بشكل أساسي، وفي العراق وإيران بشكل جزئي، وقد شكَّل تهديداً لمشروع الهيمنة الغربي قبل انهيار الاتحاد السوفياتي، وعقبة أساسية أمام مشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي كان يتم التحضير له في زمن الرئيس الأميركي بيل كلينتون، ما اضطر الولايات المتحدة إلى أن تقود بنفسها عملية القبض عليه، وبدأت العمل على ذلك بدفع الجيش التركي إلى التهديد باجتياح سوريا من الشمال، ما اضطره إلى الخروج من سوريا، رغم عدم طلب الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد منه الخروج من سوريا، ولو لوقت قصير، وخشيته أن تتعرض لاجتياح تركي من الشمال، متزامن مع اجتياح إسرائيلي من الجنوب.
ونجحت الاستخبارات الأميركية والموساد الإسرائيلي، بالشراكة مع الاستخبارات الفرنسية والبريطانية، باعتقاله في عاصمة كينيا، نيروبي، ولم يكن للاستخبارات التركية سوى دور الناقل إلى السجن التركي، ما يؤكد خطورته على مشروع الشرق الأوسط الجديد، الوجه الأخير للهيمنة الغربية.
أتاح السجن المترافق مع المتغيرات العالمية، لأوجالان الفرصة لإعادة القراءة في علوم الاجتماع والتاريخ والاقتصاد، لبلورة أفكار جديدة، وخاصةً بعد إدراكه بأن القضية الكردية لا يمكن حلُّها ضمن الإطار القومي، وفقاً لمفهوم الدولة القومية الحديثة، التي يعدّها امتداداً للتجلِّي الرأسمالي بأنماطه المختلفة، ما دعاه إلى استنباط مفهوم جديد للدولة، أطلق عليه مصطلح “الأمة الديمقراطية”، وهو إطار جامع لكل شعوب منطقة الشرق الأوسط، وخاصةً العرب والكرد والترك والفرس، ويتيح الخصوصيات الثقافية والإدارية لكل منها بشكل ذاتي، وهذا التصور للحلّ يحمل تهديداً جديداً لمشروع الهيمنة، التي تعدّ هذه المنطقة هي الأخطر في العالم القديم، ومنها نشأت الإمبراطوريات والحضارات، وهي بعودتها ككتلة متناغمة غير متصارعة، تشكل تهديداً حقيقياً لاستمرار هيمنتها على العالم.
على الرغم من الاختلاف مع أوجالان في بعض النقاط التفصيلية، التي تتعلق بضرورة وجود قوى عسكرية خاصة بكل إدارة ذاتية، أشبه بقوى الدفاع الذاتي، الذي يعبر عن القلق من المكونات الأُخرى للأمة الديمقراطية، وما يحمل ذلك من إمكانية للصدامات الداخلية، بالإضافة إلى مفهوم الرئاسة المشتركة بين الرجل والمرأة لكل المؤسسات والإدارات، وصولاً إلى مرتبة الرئاسة العليا، فإن مساحة المشتركات مع ما يطرحه أوجالان واسعة، وخاصةً في نقطتين أساسيتين، الأولى هي مسألة جذريته في معاداة “الحداثة الرأسمالية”، وخاصةً ما يعدّهما أداتين لها، وهما الولايات المتحدة و”إسرائيل”، وفي هذا الأمر يلتقي مع كل القوى الإقليمية والتنظيمية المقاومة للمشروع الغربي، والثانية ما يطرحه من مفهوم جامع للمنطقة يلتقي في كثير من نقاطه، مع ما طرحه أنطون سعادة من قبل وعمل عليه بطريقة مختلفة، من حيث التكوين الداخلي، وحدود الجغرافيا الجامعة والقابلة للتوسع، بالإضافة إلى ما طرحه بعده ناهض حتَّر وأنيس النقَّاش، وقوى متنوعة.
أوجالان معتقل من قبل الولايات المتحدة مباشرةً وهذا ما يؤكده، وأن خروجه من السجن لا يمكن أن يتم من دون قرار أميركي، لما يشكله من تهديد لها في حال خروجه واستمراره بنهجه الجذري المعادي لها، وقد تكون تجربة جورج إبراهيم عبد الله، الذي قضى محكوميته في فرنسا، ولكن لم يتم الإفراج عنه بعد، رغم مرور عشر سنوات على ذلك، بأمر من الولايات المتحدة، بالإضافة إلى أن خروجه من السجن، سيعيد تصويب البوصلة لبعض من تبنُّوا مفاهيمه، ولكن رهاناتهم الحالية قد لا تتطابق معه، أمام مشروع سياسي ملتبس ومجهول المصير حتى الآن.
لا يمكن لأوجالان الخروج من السجن، إلا من خلال هزيمة الولايات المتحدة في المنطقة والعالم، وخاصةً في منطقة غرب آسيا، والتي سيترتب عليها تغيير التوجهات السياسية التركية، ذات الطابع القومي القسري، بما يتيح الفرصة لكل شعوب المنطقة، للانتقال إلى مرحلة جديدة، تُبنى على التعاون والتكامل الإقليميين، والأمر لن يتم إلا بمراجعة كل القوى التي تجتمع على معاداة المشروع الغربي ومناهضته، وتعمل على هزيمته، كي تعيد النظر في تحالفاتها، وإيجاد القاسم المشترك في ما بينها، وهذه المسؤولية تقع على كل الأطراف، بمن فيهم الأوجالانيون، الذين سيربحون بخروج أوجالان قوة مغيبة عن الفعل، لغياب الرأس المحرك لكامل الجسم، بكارزميته وقدوته العليا.
مقال نشره موقع الميادين، تُعيد نشره صباح الخير-البناء
أحمد الدرزي