مضى وقت طويل، ونحن نقاوم الحداثة ونحتقرها، على الرغم من ضرباتها المؤلمة على رؤوسنا، وعلى الرغم من حاجتنا التأسيسية إليها، وإلى اليوم لما نزل نرفضها ونثربها، لا بل نفبرك الفضائح عنها، قياساً إلى معايير القدامة، التي لم تعد صالحة للتطعيم والترقيع، أو حتى لإنتاج المقاييس والمعايير، الأخلاقية منها أو التقنية، ومع كل هذا نعتبر أنفسنا حداثيون لمجرد أننا نعيش ونتنفس في هذا العصر «الحديث»، وهذا أمر يحصل بالإسالة الزمنية، وليس بالإنتاج المفهوم أو يمكن التفاهم معه، فلغة القدامة لغة طلطميسة عقراء، عاجزة عن توليد المعنى، لذلك نراها لغة حلزونية لا تقوى على مواجهة كذبها كجزء من الجهالة العمومية، التي تقود أي شعب أو أمة إلى مرحلة جنينية اجتماعياً، تتراكم فيه عوامل تشوهه، وفقدان قدرته على العيش بالطاقة الذاتية، فشعب القدامة بحاجة وبالضرورة إلى شعب الحداثة، ولهذا الشعب الفرصة والقدرة على التلاعب بشعوب القدامة، بصفته المعرفية، التي تبتكر وتنتج، خارج أطر الفساد القديمة التي تراكم الهزائم كانتصارات، على حساب تقشف شعبها الذي لا يحتاج إلى منتجات الحداثة، بمعنى أنه قادر على الانهزام، كما أن الهزيمة لا تؤثر به، محافظاً بذلك على كرامته التي لا تقاس بالتزويد الكهربائي، أو الكفاية الغذائية، ولا حتى بموقعها من النظام المصرفي العالمي، وهي على استعداد لتحمل كافة العقوبات الحداثية طالما هي خارج الخوف الفيزيائي من الفناء، وهذا الخوف هو نفسه التي تستخدمه القدامة في تركيع من تسول له نفسه لرؤية الحداثة على أنها حل، من خلال تطبيقاتها الاجتماعية، إبداعيةٌ كانت أم استهلاكية.
لم يعد علينا تعريف الحداثة نظرياً، فإنجازاتها العملية صارت واضحة للجميع، ولربما يمكن مقاربتها بالقول عن أنها أداة رفض الكذب على الحقيقة الماثلة أمامنا كعمليات منتصرة للشعوب الحداثية، في الاجتماع والثقافة والتكنولوجيا، بل حتى في الجماليات المحيطة للوجود البشري، فردياً كان أم مجتمعياً، فعلينا التوقف عن الكذب في المقارنة ولنعترف بوضوح مع السعي للتصحيح، أن منتجات الحداثة ومنجزاتها، أكثر ضرورة من كل منتجات القدامة المتمثلة بالهزائم والهوان، وهنا يكمن التحدي الحقيقي لاستحقاق العيش والاستمرار، التي لم تكتفي يوماً بذاتها، بل كانت ( الاستحقاقات) مطاردة بشتى أنواع التطور الارتقائي الإجباري، والحداثي بالضرورة. لتصبح الحداثة نفسها عملية تكذيب مقرونة بالدلائل والنتائج، للقدامة على أنها أنموذج صالح لإي شيء، بدءً من الحكومة، وليس إنتهاءً بالثقافة الحقوقية المنظمة لحقوق أفراد هذا التجمع السكاني أو ذاك، وهنا لا بد من الإشارة أن «المجتمع»، ليس مجرد لفظ ناتج عن تصريف لغوي، بل حالة حداثية لا يمكن تجاوزها، بأي تعريف انتمائي آخر، وبالتالي يصبح المجتمع إحداث تكنولوجياتي حديث وارتقائي بالضرورة الحداثية نفسها، كمستنبت إبداعي إنتاجي، يضح حلولاً للفاقة المعرفية التي تعيد إنتاج القدامة.
في استقبالنا للحداثة، نستقرئ مصير، عبد الرحمن الكواكبي، وطاهر الجزائري وطه حسين، وعلي عبد الرازق، وعبدالرحمن الشهبندر، وأنطون سعادة، لنتعرف على صلادة القدامة وانتحاريتها، في سبيل الحفاظ على بنيتها، التي تشكل مصلحة أكيدة لكل استعماري حداثي، لأنها ببساطة تفضل عمليات الخضوع والإخضاع، بديلا عن التنافس والتنافس والتبادل، فالفكر القدامي هو فكر إخضاعي بالضرورة، والنتيجة معروفة في هكذا نوع من المبارزة أو التحدي، غير المطلوبين في أروقة الحداثة، فالوسائل الحداثية تعفي الحداثي الأخر منها، ولكن إن تحتم الأمر وأصبح واقعاً فالمصير الإيراني أو الأفغاني واضح للغاية، على الرغم من تضافر العوامل التاريخية من قومية وأيديولوجية، فالقوة الحداثية متنوعة ومحمية ذاتياً، ومنظمة في «مجتمعات» ذاتية الإبداع والإنتاج والتنافس والمقايضة.
الآن نحن في مأزق عميق، نريد ونطلب بإلحاح مكتسبات الحداثة، بينما نرفض استحقاقاتها، وفي هذا لحظة الحقيقة، أو مفترق الطريق، الذي ربما ( وعلى الغالب) اتخذناه، دون أن ندري نتائج هذا الرفض، يؤدي بالقداميين إلى تقبيل أيدي وأرجل الحداثيين كي يرضون عنهم، ويعفونهم من بعض عقوباتهم، وبعض استغلالاتهم، وبعض من استعمارهم، مقابل أخذ الشعوب رهينة تحت تهديد العنف المحلي، للحصول على فتات موائد هؤلاء الملاعين ليسمحوا لهم بممارسة القدامة، مع العلم أن مصلحة الاستعماريين الحداثيين هي في المحافظة على قدامة هؤلاء.
لا طريق ثالث، إما طريق الحداثة، أو طريق الفوات الإنتاجي (الغذائي، الكهربائي، المائي، الجمالي، الأخلاقي.. إلخ) وبالتالي النكوص في مرحلة ما قبل المجتمع، إلى مرحلة أدنى منها، وأكثر منها ويلاً وثبوراً، ولا يمكن لأي وعد أو تعهد أن يصدق، أو ينفّذ، دون التخلي عن كل قدامة مهما كانت ضئيلة، فهي قادرة على تسميم البئر، فالحداثة هي فن مواجهة الحقيقة ومعالجتها، وفي هذا محاولة للقضاء على الكذب والتدليس الثقافيين، بقوة المجتمع المحدث بسبب مقومات الحداثة، هذا المجتمع القادر على كشف الكذب وممانعته كصفة من صفات وجوده، أو يسمى واجباته.

