إن الكثير من السياسيين والكتاب والإعلاميين والأحزاب، وحتى الذين يعتبرون أنفسهم أكاديميين أو مثقفين، يتجاهلون ولا أظن أنهم يجهلون، لأنهم عن قصد يضللون الرأي العام، ويُحاوِلُون أن يُحَرِّفوا النظر عن الأسباب الحقيقية للجولة الأخيرة من الحرب اليهودية على شعبنا، الكثير منهم يكيلون للمقاومة جميع أنواع التهم، أقلها أنها هي من بادرَت بالاعتداء والحرب، أو أنها حملت السلاح وتدرّبت واستعدّت لمواجهة العدو اليهودي، والكثير منهم يعزون أسباب الحرب إلى المقاومة، بسبب أن المقاومة في بلادنا تؤمن بالكفاح المسلّح لاستعادة الأرض والدفاع عن النفس، ويلومون المقاومة بشدّة ويحرّضون السلطة الحاكمة والأجنبي على المقاومة والشعب السوري لأنّهما يرفضان شروط العدو اليهودي التي ترسّم حدود وجودنا وطريقة حياتنا وحتى طريقة تفكيرنا كشعب سوري، ويناقشون أي أمر يتعلق بالاحتلال اليهودي كأنه وجود شرعي ويتمتّع بالحق لاحتلال بلادنا، ويتعاملون مع الكيان المغتصِب لفلسطين كأنه دولة مستقلة ولها حدودها الطبيعية، وميزة حدودها أنها قابلة للتمدّد والتوسّع، وأنها جارة ومن الواجب الحفاظ على حسن الجوار، ويريدون من الشعب السوري ومن منظماته القتالية المقاومة أن يُسلّموا أن هذا الاحتلال اليهودي حقّ، للعلم إن العدو اليهودي يرفع شعار: «أرضك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل»، ويتناسون أن في فلسطين احتلال يهودي غاصب ويريد أن يثبت وجوده وأن يتوسع.
فالجولة الحربية والسياسية التي بدأت في السابع من أكتوبر 2023، والتي خاضها شعبنا السوري في مواجهة محاولة العدو اليهودي المحتلّ التمدّد والإطباق على كامل أرض فلسطين وإنهاء المسألة الفلسطينية لصالح إقامة “الدولة اليهودية” على كامل التراب الفلسطيني، وكانت قد هيّأَتْ لها الولايات المتحدة الأمريكية و”الدولة الغاصبة” مع حلفائها الغربيين والعرب التابعين، وما الاتفاقية الإبراهيميّة إلا خير دليل على ذلك، كان لا بدّ أن يخوض شعبنا في فلسطين هذه الجولة الدفاعية لتثبيت حقّ الشعب السوري في فلسطين، وقد كانت هذه الجولة مظفّرة لشعبنا وحقّقت نتائج ملموسة؛ أمّا التضحيات فهي كبيرة وضخمة، ولكن تهون التضحيات متى كانت في سبيل الحرية، لأن التحرّر لا يناله الشعب دون الفداء، كثيرًا ما يقاربون الجولة الحربية على قاعدة الخسائر: ماذا دمرنا عندهم وماذا دمروا عنا، وكم شهيد ارتفع للعلياء عنا وكم قتيل تكبّد العدو، هذه القاعدة ليست صالحة للقياس، لأن وجه المعركة والجولة الحربية ليست بين دولتين متكافئتين تتحاربان من أجل التمدّد السياسي أو من أجل الهيمنة الاقتصادية، ولو كانت الحرب على أساس سياسي أو اقتصادي بين دولتين متكافئتين، لكان قياس الخسارة والربح صحيحًا، أمّا أن احتلالًا يهوديًا غاصبًا يريد أن يثبت وجوده ويتوسّع وأن يقتلع شعبًا من أرضه وجذوره قتلاً كان أو تهجيرًا، فعندها تكون المعركة معركة وجود وحرية وتحرّر ومن الواجب أن يهبّ كل أبناء الوطن للدفاع عن الوطن وأبناء شعبهم المعرضين مباشرةً للقتل والإبادة والتشرد.
أمّا ما حصل في فلسطين من المآسي، فكان المسؤول عنها السياسيون النُّفعِيّون وحكومات الدول السورية، لأن فلسطين تُركت وحدها من قبل الحكومات المزيفة امام اليهودي المفترس، لذلك كانت المقاومة في فلسطين مستفردة، وكذلك المقاومة في لبنان مستفردة، لأن الحكومات غارقة في الكيانية من ناحية، وغارقة في الحزبية الدينية والعرقية والمذهبية من ناحية ثانية، والدول السورية ضربتها أمراض اجتماعية وسياسية واقتصادية متولّدة من رحم الانعزالية الكيانية والتبعية للإرادات الأجنبية، ومن رحم الحزبية الدينية، وهذه الأمراض الاجتماعية تفشّت بين غالبية المواطنين.
بقي في الوطن السوري علامات مضيئة تسطع حينًا وتخفت حينًا تبعًا للإنجازات التي تُحقّق، وهذه العلامات المضيئة هي المقاومة على اختلاف فصائلها، وهي أعمال عفوية تلقائية أصيلة في النفسية السورية العظيمة، مبتغاها الحرية والتحرّر من العدو اليهودي، ورغم التضييق والحصار والمحاربة، أنجزت المقاومة الكثير، منها:
ربحت تثبيت الوجود السوري في فلسطين والحق السوري في فلسطين، وحقّ مقاومة المحتلّ، وإزالة الشريعة المزيفة للوجود اليهودي في بلادنا.
ربحت الالتفاف الشعبي في سورية حول نهج الكفاح المسلّح نهجًا طبيعيًا للتحرير والحرية.
ربحت إسقاط النظرة الكيانية تجاه مسألة فلسطين.
ربحت قرار توحيد الساحات لتكون ساحة واحدة لنصرة المسألة الفلسطينية، وقد أطلقها بهذه الجولة الحربية الشهيد الكبير السيد حسن نصر الله، ولا بدّ من إعطائه حقّه العظيم في هذه الحرب الوجودية، فكانت المقاومة في كل سورية مستنفِرة وقاتلت حسب إمكانياتها كلٌّ من موقعه، وتخصّيصنا بالاسم للشهيد الكبير لأنّه أطلق شعار وحدة الساحات وإنصافًا لعمق تفكيره الصائب تجاه العدو اليهودي، ولزامًا للحقيقة المجردة ألا نغفل الحزب السوري القومي الاجتماعي، الذي قاتل بكل طاقته وإمكاناته، ومن زاوية النظرة القومية الاجتماعية، في هذه المعركة وكل المعارك كان القوميون الاجتماعيون في ساحة القتال واحدا: الفلسطيني واللبناني والشامي والعراقي والأردني؛ كل هؤلاء القوميين منذ سنة 1932 رفضوا الحواجز والحدود السياسية والمذهبية في الأمة السورية، ووحّدوا كل المسائل السورية في قضية واحدة: هي قضية الأمة السورية.
لقد ربحنا تعاطف الأجيال الجديدة الصاعدة في كل شعوب العالم وقفوا إلى جانب الشعب السوري، منها إيران؛ وهنا أودّ أن أسجّل شكر الشعب السوري لهذه الوقفة الشريفة، ولن يردَّ الشعب السوري الجميل إلا بموقفٍ جميل تجاه حقوق الشعب الإيراني الصديق الحرّ.
ربحت المقاومة في هذه الجولة بأن أظهرت الثقافة اليهودية المتوحّشة على حقيقتها أمام العالم أجمع.
وربحت اليمن العظيم قيادةً وشعبًا جنبًا إلى جنب مع المقاومة لتثبيت الحق السوري في فلسطين وجنوب لبنان.
وربحت أن فاوضت الدول المؤيدة للعدو المقاومة كمرجعٍ ممثّل للشعب وليست كمجموعة إرهابية.
وربح الشعب السوري بإظهاره نفسه شعب حرّ لا يقبل العبودية.
أمّا ما حصل في شرم الشيخ وما ظهر من كرنفال دولي عناصره الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها، ليس سببه المقاومة، بل سببُه ضعف وجبن الحكومات السورية وغيابها عن قضيتها وسماحُها للأجنبي بتقرير مصير الشعب السوري، فلن نجد منهم أي موقف رافض بل وجدنا الخنوع والقبول للغطرسة الأمريكية، وإن غابت القضية عن الحكومات، فعلى الشعب والمؤيّدين للمقاومة أن يتّحدوا حول موقف واحد دعمًا للمقاومة ورفضًا للإملاءات الأمريكية واليهودية التي تريد فرضها بمرحلة الهدوء والحرب الناعمة لجرّ شعبنا للاستسلام والتطبيع والاتفاقية الإبراهيميّة الخطيرة، وعلى الحكومات في الدول السورية، وخاصة لبنان والشام والسلطة في فلسطين، ألّا يقَعوا في الشرك والخداع اليهودي، وأن يستيقظ فيهم الوجدان القومي، وان يتركوا المقاومة تقوم بعملها وواجبها مع العدو، وان يشدوا روابط التعاون والتنسيق بين الجيوش النظامية والمقاومة، ونطالب الحكام أن لا يبيعوا الوطن للاجنبي حفاظًا على مناصب زائلة.

