حين قال أنطون سعادة إنّ الخطة المعاكسة لإسرائيل الكبرى هي «سورية الطبيعية»، لم يقصد مجرد شعار جغرافي أو استعادة حدود قديمة فحسب، بل مشروعاً حضارياً وسياسياً يُعيد للأمة السورية مكانتها، ويضع أسساً قوية للدفاع عن سيادتها وكرامتها في وجه مشاريع الاستعمار والتقسيم.
في ضوء وضع المنطقة اليوم ـ الانقسامات الطائفية والإقليمية، ضعف الدولة، تدخلات القوى الإقليمية والدولية، والأزمة الإنسانية والاقتصادية ـ يصبح التحدّي تطبيقياً: كيف نترجم هذا الطرح إلى آليات عمل عملية، سلمية، ومستدامة؟
فيما يلي طرح تحليلي–نهضوي لآليات تنفيذ ممكنة تراعي الواقع وتؤطِّر الوسائل ضمن القانون والدبلوماسية والتنمية الحضارية.
المرتكزات الأيديولوجية والنظامية
1ـ تحديد رؤية وطنية شاملة: صياغة وثيقة برنامجية وطنية تُجمع حولها القوى السياسية والمدنية تبنياً واضحاً لمفهوم «سورية الطبيعية» الذي يركّز على وحدة الأرض والشعب وحقوق المواطنين بغضّ النظر عن انتماءاتهم.
2 ـ فصل المشروع الحضاري عن منطق الإقصاء: التأكيد أن الاستعادة ليست انتقاماً بل إعادة بناء مؤسسات وسياسات تحفظ حقوق الجميع وتُسقط مشاريع الاحتلال والتبعية.
آليات دبلوماسية وقانونية
1 ـ . حشد شرعية دولية: العمل مع منظمات دولية ومحامين دوليين لوضع ملف شامل عن حقوق السيادة، اللاجئين، التعديات، والاقتصاد المشروط لإبراز الانتهاكات والضغط عبر القنوات القانونية (محافل الأمم المتحدة، محاكم دولية عندما يتطلب الأمر)
2ـ سياسة خارجية متوازنة وفعّالة: بناء شبكة من علاقات خارجية تقوم على المصالح المتبادلة لا على المحاورية الحزبية، مع التركيز على دول عدم الانحياز والقوى الصاعدة لتقليل عزلة المشروع السياسي.
3ـ دبلوماسية شعبية: استثمار الجاليات والشتات في حملات توعية، لوبيات قانونية، واستثمارات اقتصادية تُعيد بناء صورة البلاد وتزيد من تأثيرها الدولي.
آليات اقتصادية وتنموية
1. ـ خارطة طريق للاقتصاد الوطني: برنامج اقتصادي متدرّج يركّز على الأمن الغذائي، الطاقة المحلية، والبنى التحتية الأساسية، مع سياسات حماية للمشروعات الصغيرة والزراعة لتقوية قاعدة المجتمع.
2. ـ إعادة جذب الاستثمارات الذكية: حوافز للاستثمارات التي تبني قدرات محلية (تقنية، صناعية، زراعية) مع شروط توظيف محلي ونقل تكنولوجيا.
3ـ الشراكات الإقليمية الاقتصادية: اتفاقيات تجارة واستثمار مع جيران غير معادين تُنقذ الاقتصاد من الانغلاق وتخلق تكاملًا عمليًا يضعف أثر الضغوط الخارجية.
آليات اجتماعية وثقافية وتربوية
1 ـ بناء سرد وطني جديد: برامج تعليمية وإعلامية تعيد صياغة الهوية على أساس المواطنة والذاكرة المشتركة، لا على الانقسام الطائفي أو العرقي.
2 ـ المصالحة وإدماج النازحين واللاجئين: سياسات عادلة للعودة وإعادة الإعمار، وبرامج نفسية واجتماعية تعيد النسيج الاجتماعي.
3ـ تعزيز الثقافة والإبداع: دعم وسائل الإعلام المستقلة، الفنون، والمراكز البحثية لإعادة صياغة خطاب وطني دافع ومستنير.
آليات مؤسسية وسياسية داخلية
1ـ إصلاح مؤسسي شامل: إصلاح القضاء، الأمن، الإدارة العامة والمالية لضمان دولة قادرة على حماية مواطنيها وإدارة مواردها.
2ـ انتخابات تمهيدية ومشاركة مدنية: فتح المجال السياسي بطريقة شفافة تضمن شرعية الداخل وتضع أساساً مستقراً لأي مشروع قومي.
3ـ مكافحة الفساد كأولوية: إجراءات ملموسة وشفافة لإعادة ثقة المواطن بالدولة والمؤسسات.
آليات أمنية ـ استراتيجية غير عسكرية
1. ـ بناء قدرات دفاعية مؤسسية: جيش وطني خاضع للسلطة المدنية، مدرَّب على حماية الحدود وحفظ الاستقرار الداخلي دون اللجوء إلى سياسات التفوق العسكري الخارجي.
2ـ الأمن السيبراني والمعلوماتي: حماية البنية التحتية المعلوماتية وحملات ضد التضليل الإعلامي لتعزيز الجبهة الداخلية.
آليات التحالفات الشعبية والمدنية
1ـ شبكات تنسيق فاعلة: إنشاء مجالس تنسيق بين الأحزاب، النقابات، منظمات المجتمع المدني، والقطاع الخاص لتنفيذ البرامج على مستوى محلي ووطني.
2ـ تدريب قيادات شبابية ومدنية: برامج تأهيل سياسي وإداري للشباب لقيادة التحولات القادمة.
المخاطر والضوابط الأخلاقية
تجنب الدموع الطائفية والقصور عن العدالة: يجب أن تكون السياسات مبنية على حقوق الإنسان والمواطنة، لا على الانتقام.
الحذر من التبعية الخارجية: أي تحالف يجب أن يُقاس بمقدار تعزيز السيادة الوطنية.
الشفافية والمساءلة: لتجنّب تكرار أخطاء الانحطاط المؤسسي.
خاتمة
«سورية الطبيعية» بُعد حضاري قبل أن يكون جغرافياً؛ هي مشروع لإعادة بناء كرامة شعب وإمكانات دولة قادرة على الصمود أمام مشاريع الاستعمار والتقسيم. تنفيذها يتطلب استراتيجية متكاملة: دبلوماسية قانونية ذكية، اقتصاد مقاوم ومنفتح، مجتمع مدني قوي، مؤسسات شفافة، وتعليم يزرع المواطنة. وهذا المسار لا يتحقّق بخطابٍ شعري فقط، بل بفعلٍ يومي مستند إلى قواعد واضحة، أخلاقية، وقانونية ـ فالنهوض يبدأ بخطوات صغيرة لكنها متواصلة، تُحوِّل الحلم إلى واقع سياسي واجتماعي مستدام.

