لطالما سمعنا بمصطلح الوعي، الذي يأتي غالباً في سياق الحديث عن الارتقاء (التحضر)، بما يعنيه من تغيير في البنى الثقافية لأي اجتماع بشري، ولطالما سمعنا بهذا المصطلح كشرط شارط لإنهاء حالة أو حالات من الضعف والهوان، والصغر أمام الآخر القوي، من دون أي ذكر لتحضره، أي أن مصطلح الوعي دائماً يأتي بصفة المقطوع من شجرة، حيث يحتدم النقاش على تعريفه، ( ما هو الوعي) وقلما يحتدم النقاش حول بماذا علينا أن نعي، حيث يتسع المجال لمناقشة هذا الوعي ليشمل كافة المواضيع والأزمنة والأزمات، فالوعي بالتاريخ والتراث هو وعي أيضاً، وكذلك الوعي بصناعة الفخار وتأصيله ! يعتبر وعياً، والوعي بالشعر الجاهلي، والموسيقا «العربية» أو الشرقية … وإلخ من عناوين مترامية كلها وعي، ولكنها جميعها لا تستطيع الدفع بهذا التجمع السكاني أو غيره للتخلص من حالة الويل والهوان المستعصية، عند أول امتحان يواجهه التجمع السكاني الآنف، ويخسره، حيث يحمّل «الوعي» مسؤولية التسبب بالهزائم، ولكن لا أحد يجرؤ على المصارحة ويسأل …. سؤال الوعي بماذا؟!
هل نحن غافلون عن إنجازات (انتصارات) الأمم «الواعية»؟، وهل هذه الإنجازات معجزة مصادفاتية أو إلهية، أم بفعل فاعل بشري دنيوي يعي ما يفعل، مختزناً «القوة» على أنواعها لحين الحاجة؟ وهل هذا الوعي مكترث بوعي التراث والإخلاص لهذا الوعي الذي تجبه التكنولوجيا برمته؟
أسئلة مشروعة تقف على منعطف إجباري، فالقاطرة البخارية جبت ليس عربة الجر فحسب، بل غيرت حسابات الزمن، ومفاهيم الانتقال في الأمصار مما شارك في صنع الاستعمار، والتكنولوجيا اليوم تجب كل وعي مما قبلها، حتى لو كان قدس أقداس الوعي بالتراث والأصالة وغيرها من المواضيع التعلمية الموصوفة مجازاً بالوعي.
المهم هو الوعي بماذا، هذا هو السؤال المفصلي الذي نحتاج للوعي عند سؤاله، فلا نتوقف أو نؤجل أو نتردد عند سؤاله، فالوقت تأخر كثيراً على إدماننا الهزائم والانكسارات، ليتلخص السؤال الواعي حول ما الذي جلب علينا كل هذه الهزائم والانكسارات، بعد أن أتضحت وبشكل جلي لعبة الأمم على أنها ليست لعبة ضغائن وأحقاد، بل هي لعبة مصالح، لا تفيد معها لغة الرد بالتوصيف وإعادة تعريف الوعي بالأخلاق والعدالة، بل تحتاج إلى تكنولوجيا مقابلة تكاسرها أو تسبقها، ليصبح سؤال (ماذا نعي) هو سؤال عن من نحن وكيف نحن وما هي التكنولوجيا التي ترفعنا من هوة الويل، إلى رفعة المكانة.
ومن نحن؟ هو سؤال في صميم تنظيم هذه النحن، وتوليدها كهيئة متكاملة بمعايير العصر الذي تشهر فيه التكنولوجيات ضد التكنولوجيات في منافسة معرفية مجردة من القيم القديمة المستقرة بلا داعٍ أو ضرورة، لتبدو هذه المواجهات التكنولوجية والتكنولوجياتية، كمواجهات وجودية، فالنحن غير المعرفة، هي لا نحن تماماً، واللانحن معرضة دائما للتحكم والجعلكة في حالات الرحمة، ومعرضة للفناء في حالات العدالة التكنولوجية، بحيث يصبح الفوات أو التصحر التكنولوجي، معادل تماماً للإنمحاء الوجودي، أي الويل بكافة مندرجاته.
والوعي بالتكنولوجيا والتكنولوجيات، يحتاج بالضرورة للتخفف من كل أنواع الوعي السابقة عليه، بواسطة تحويلها إلى فلكلور، حيث لا يمكن إقامة المجتمع والدولة كتكنولجيات يجب تطبيقها بحضور الوعي المناسب للعصر الذي هو بمعنى أو بآخر هو التحضر بعينه، الذي يجب أن يتراكب على نسق ( وليس على رتل)، فالوعي بمستلزمات إقامة الدولة الحديثة والمجتمع الحديث، يخربه كل وعي من خارج نسقه، والوعية بتكنولوجية إحداث المجتمع المعاصر يجبّ كل تكنولوجية سابقة عليه، بدلالة قدرتها على توليد تكنولوجية إدارة هذا المجتمع والوعي بها، بتكنولوجيات مولَدة، مثل الحكومة والأحزاب والنقابات ..إلخ، وهذه التكنولوجية والوعي بها، يطلق عليها أسم دولة، مختصة بإشهار الهوية المجتمعية ( ليس الأكثرية وليس ذات الشوكة والغلبة) بحثاً عن المكانة في مجمع التنافس الأممي.
لقد فاتنا الكثير من الوعي، في انتظار المعجزة أو المصادفة، التي تجب الوعي التكنولوجي، وخسرنا ما خسرناه، ولن نستطيع استرجاعه إلا بمعركة وعي صريحة وعلانية، حول من وكيف نحن، الذي يستوجب بالضرورة الوجودية، نجترح تكنولوجيا اجتماعية مفهومة ويمكن التفاهم معها، تكنولوجيا تجبّ بالوعي سابقاتها، في سبيل المصلحة، وإلا ما علينا سوى الانضمام إلى تقبل بنا وتجبرنا على ممارسة الوعي كما طورته وصارت عليه، وقتها لا لزوم للهوية، فهي غير مقروءة على طرفي المعادلة، فبلاد ضعيفة متهاوية، تعبث بها القوى الكبرى والصغرى، لا تفترق بشيء عن بلاد تنضم إلى قوى أقدر منها تدير لها حياتها كيفاما شاءت. وهنا بيت قصيد الوعي، أو سؤال بماذا نعي، إذا لم نستطع تغيير الوعي السابق بوعي أجدى منه، يفيد بمعنى التحضر الذي هو نفسه الشبع والمنعة؟.
المسافة بين التحضر والهمجية مجرد شعرة، علينا قطعها، حتى لو اضطررنا لمخاصمة التراث والتقاليد والأعراف، فشرط الشبع والمنعة على الصعيد المجتمعي، هو الوعي الوحيد القادر على تأطير التجمع السكاني وتعريفه وإشهاره والتنافس على أساسه. والوصول إليه ليس مصادفة أو معجزة.

