الذي يقرأ روايات الأدب العالمي يعثر على متوائمات ومناسبات غاية في الدقّة والشّبه بين محتوى الرواية والواقع المجتمعي الذي نعيشه في بلدنا!
وغالباً ما تذهل القارئ الذكي الحصيف، أوجه الشبه ويبدأ في طرح الأسئلة على نفسه ومنها:
هل هناك روح كونيّة عالميّة تؤثّر في النّاس وتفتح عيونهم على حقائق مختلفة موجودة هنا وهناك، في هذا البلد أو ذاك، تنتقل بالتخاطر وتفرض ذاتها على الوعي الذاتي والجماعي؟
من بين الكتّاب الذين تركوا بصمة رائعة في تاريخ الأدب العالمي، الكاتب البرتغالي خوسيه ساراماغو من خلال روايته” العمى” التي تتناول موضوعا فلسفيا واجتماعيا بامتياز، حول وباء غامض يصيب مدينة لا يحدد لنا الكاتب إسمها، يؤدي هذا الوباء الى فقدان سكّان المدينة بصرهم فجأة، وتاليا ينهار المجتمع وتبدأ سيطرة العصابات على ما تبقّى من طعام ودواء؛ ممّا يخلق موجة من الذعر والفوضى في البلد!
لا تركّز الرواية فقط على الجسد، بل أيضا على العمل الفكري والأخلاقي حيث تظهر حقيقة البشر، الذين يمكن أن يصبحوا غير قادرين على التعاطف والتفكير السليم في مواجهة الخوف والفوضى.
تقول زوجة الطبيب وهي إحدى شخصيات الرواية، التي تحتفظ ببصرها واصفة هذا الوضع:
لا أعتقد أننا أصبنا بالعمى، بل أعتقد أننا عميان يرون بشرا عميانا يستطيعون أن يروا، لكنّهم لا يبصرون!
تطرح هذه الرواية الإشكاليّة، أسئلة حول طبيعة الإنسانيّة وقدرتنا على التعايش في المجتمع. كما تسلّط الضوء على هشاشة الأعراف والقيم التي تبني التعايش وعلى ما يبدو أن ساراماغو يدعو إلى التفكير في مخاطر حالة اللامبالاة التي تسود في المجتمع والعيش في حالة الانعزال عن الآخر، في عالم منفصل عن الواقع بشكل متزايد، والملفت أن هذا المجتمع الذي وصفه ساراماغو هو المجتمع عينه الذي نعيش فيه الآن في بلدنا، لا أحد يشعر بأحد وما من إنسان يتعاطف مع إنسان آخر يعيش قربه، بل تسخر المكوّنات الاجتماعية الطائفية من بعضها ولا تتوانى عن الشماتة والتنكيل بالمكوّنات الأخرى!
نلاحظ أن النّاس في أيامنا، يسيرون مثل العميان في شوارع مدننا وبلداتنا. يكفي فقط أن نحصي عدد الحوادث المرورية التي تجتاح طرقاتنا، لندرك العمى الذي يعيش فيه معظم الناس ، و نرى أن فئة كبيرة أغمضت أعينها ولم تعد تعبأ بعذاب فئات أخرى الى درجة أنني بدأت أؤمن أن ساراماغو الكاتب الرائي قد تنبّأ بما آل إليه مجتمعنا وأكيد في مدن العالم أجمع وكيف تحوّلت بنية الهيكل الاجتماعي لدينا إلى دهاليز مظلمة يعيش فيها البشر وكأنّهم لا يشعرون ببعضهم البعض وقد عميت أبصارهم وأحاطوا أنفسهم بدروع من حديد لا يخترقها شيء ؛ لا على صعيد الإحساس والمشاعر ولا على صعيد إدراك حقيقة أزمات العالم المعاصرة .
في رواية أخرى تحمل عنوان:
” انقطاعات الموت ” يتحدّث فيها ساراماغوعن دولة لم يذكر اسمها ولا موقعها على الخريطة ولكن بدا من الواضح أنّها تنتمي الى ذلك الطابع الاوروبي الحديث. وبعدما رسم ساراماغو ملامح المجتمع الذي يتحدث عنه، دخل الى قلب الأزمة التي بدت مختلفة وغريبة عن جميع الأزمات الأخرى التي تصيب الكون فالأحداث تخبرنا هناك أن الوفيات قد توقفت في هذه الدولة ومن هنا بدأت الحكاية.
استمرّت غرابة الأحداث لأيام دون تفسير أو فهم لما يحصل، كذلك كان المرضى في المستشفيات والمنازل يبقون على قيد الحياة بعد أن كانوا دخلوا سابقا في حالة احتضار وأصبح الأمر غريبا للغاية وتجاوز كل ما هو منطقي …
هذا الوضع في حالة معيّنة ينطبق على لبنان فنحن توقف الموت عندنا، ولكن ليس في كل المجالات، بل في مجالين أساسيين:
الانتخابات ووظيفة الدولة فكم من مواطن لدينا في السلك العام، يموت، ولكن يواصل قبض راتبه وذلك من عشرات السنين المتواصلة، وكم من مواطن متوفّي من أعوام يظهر يوم الانتخابات حصريا ويضع صوته في صندوق الاقتراع!
لوائح الشطب في بلادنا هي أشبه بكتاب سحري يميت الأحياء حتى يرث المحتالون النصّابون عقاراتهم وثرواتهم، ويحيي الأموات لكي يجعلهم يقومون بواجب التصويت في الانتخابات ولا غرو إذا كان ساراماغو قد استوحى منّا مواضيع رواياته ، فليس في الاقتباس عيبُ ولكن العيب كل العيب في بلد تعيش فيه الناس تحت وزر طاقة شبحيّة مريبة ، حيث الأشباح يسرحون ويمرحون والزومبيات ينقضّون على رقاب الأحياء ويمتصّون دماءَهم …مهلا لقد غادرنا فضاءات روايات ساراماغو ودخلنا عوالم روايات ستيفن كينج المرعبة و كأن الأدب العالمي استوحي كلّه من وطننا الجميل الممتد من المتوسط حتى الخليج !

