علينا الانتباه أن زمن الدولة هو المستقبل، والحاضر هو مجموعة مؤشرات، تنذر هذه «الدولة» للانتباه لعوامل بقاءها واستمرارها، وعدم الاكتراث لهذا الإنذار، يحول «الدولة» إلى مجرد سلطة، محدودة الأجل، مما يفرغ الوجود المجتمعي من معناه، بمعنى سلب الإرادة، بدلاً عن تمثيلها، بدلالة فقدان الاستراتيجيا، والتفرغ لإدارة الأزمات، التي تكون (الأزمات) في العادة لصالح السلطة وضد الدولة، لأن الأزمات بطبيعتها آنية مؤقتة و متبدلة بحسب العصر والآوان، وكذلك بحسب تحولات التكنولوجيات المستمر، الذي يؤشر إلى تغيّر الحاجات (الاستهلاك) بين مرحلة وأخرى، وهذا ما يضع « السلطة» في أزمات أو مآزق لا تستطيع حلها (فتديرها) بسبب افتقاد الاستراتيجيات المؤدية إلى الإنتاج، وذلك بسبب بقاء «السلطة» في الزمن المضارع، وحصر معنى التنمية بإجراءات تجريبية تدور في دائرة مفرغة، بسبب عدم القدرة على اللحاق بتكنولوجيات كانت محضرٌ لها سابقاً من خلال أداءات «دولة» أو «دول».
ليس فقط أن المياه سبب كل شيء حي، بل وأيضاً أن الحضارات تاريخياً، وحالياً، قامت حول المياه، فهي العصب الأساسي للإنتاج الذي هو مهمة «الدول»، وبه تقوم أو لا تقوم قائمة الشعوب، أو الجماعات البشرية أو السكانية وحتى المجتمعات ( بمعناها الحديث)، ومن هذه الناحية يمكننا التحديق في مآلات، بلدان سوريا الطبيعية، من خلال النظر إلى استراتيجيات المياه، التي أهملت عن عمد، أو عن فقدان العلم والمعرفة، أو حتى بسبب فقدان الاستراتيجيات، الذي ينزع عن الدولة صفة الدولة ويبقيها في إطار سلطة دائمة الصراع للحفاظ على موقعها، ومن هذا الباب أيضاً يمكن مناقشة مسألة الأهلية لقياد هذا التجمع السكاني أو ذاك، بناء على استراتيجيات العناية بهؤلاء السكان، على اعتبار أنهم مأهلون للتحضر، وإقامة حضارة، يستحقونها، وذلك عبر ممارسة استراتيجيات تحافظ على ديمومة مقومات الإنتاج، وعلى رأسها المياه.
اليوم تعاني بلدان سوريا الطبيعية من أزمة مياه واضحة، تؤثر في الزراعة والصناعة وحتى مياه الشرب، وهذه الأزمة كانت مقروءة منذ ستينيات القرن الماضي، على الرغم العراقة الحضارية لهذه البلدان التي قامت حول المياه، بمعنى أن المياه كانت السبب الأساسي في تشييد هذه الحضارات، لتتحول هذه الإمكانيات إلى سلاح استراتيجي مفكراً به من قبل الحاضرين استراتيجياً، وهذا ما يفسر بوضوح سلب كيليكا والإسكندرون من بلاد الشام وضمها إلى تركيا العالمانية، التي أمسكت بخناق كيانات سوريا الطبيعية استراتيجياً، تبعتها بذلك دولة الكيان الصهيوني التي تسيطر على مصادر المياه وتنهبها، كما فعلت تركيا وحتى إيران في حدود العراق الشرقية والشمالية، أمام أعين السلطات العتيدة، التي تفتقد للاستراتيجية ليس بما يخص المياه وحدها بل بكل شأن استراتيجي، لإن همها الإبقاء على السلطة يوم بيوم، وليس لها ترف الأداء كدولة، زمنها هو الزمن القادم، ليس الحالي، وبشكل مؤكد ليس الماضي.
ومن يعرف نهري دجلة والفرات (وكذلك الخابور، وبليخ وجغجغ وغيرها) في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، سوف يعرف الفارق بين النهر والساقية، وسوف يفهم أزمات الزراعة وشح الإنتاج الزراعي وتأثيره على السكانيات (غير المجتمعية حتى اليوم)، حيث أثر هذا التغيّر في كمية المياه في نوعية الاجتماع والثقافة الاجتماعية، إن كان من حيث التحول الديموغرافي، أو من ناحية الإفقار الجماعي، الذي حول الاقتصاد الإنتاجي إلى اقتصاد ظل وفهلوة وعنف، المتمثل بعودة الغزو من أقاصي التاريخ ليمثل اجتماعاً معاصراً متحضراً، وهنا لسنا في مقام توزيع المسؤوليات على سلطات نجحت في تصحير الإرادة الاجتماعية، فجميع سلطات الحكم في بلدان سوريا الطبيعية غضت الطرف عن المصيبة القادمة حفاظاً على توازنات خارجية تبقيها في السلطة، وإلا فالموضوع واضح وضوح الشمس، وإلا كيف يتحول الفرات (وغيره) إلى مجرد ساقية تحت أعين السلطات المصنفة من الأبطال؟.
الكثير من الدراسات العلمية صُنعت، والكثير من المقالات دُبجت، وكثيرة هي الأصوات التي بُحت، ولكن الحال بقيت كما هي عليه، فنحن قادمون على مصيبة تعادل الوجود، ولا «دولة» أصلية قامت بما عليه لتغيير هذه الحقيقة الساطعة، فالسلطات قادرة على تقبل حكم الفناء الاجتماعي بمعناه الوطني، على أن تواجه أزمة وجودية بحجم شح المياه، وكأن وجودها البطولي الإعجازي، سوف يروي الأرض، أو يشغل المصنع، أو يسقي عطشاناً، وهي مسائل بالإضافة إلى توفر المياه، تحتاج إلى جهد وعرق الزراع والصناع والعطشانين، ليثبت أن فقدان المياه هو بعثرة وإضاعة للإمكانيات البشرية التي تصنع التحضر، فالجهد الإنساني والأرض والمياه، هم مصدر الرزق والرفاهية والارتقاء، وبفقدانهم لا يبقى إلا الفساد والفهلوة كممثل اتقائي للعنف والغزو.
إن حضارية الفعل الزراعي، هو نقلة نوعية أحدثها البشر، والعوة إلى ما قبلها، هو عودة بالتحضر إلى ما قبله، وهذا عكس مهمات وواجبات الدولة، وعليه فإن استراتيجيات المياه والاندفاع العملي لتحقيقها، هو مؤشر حيوي على وجود دولة، بما تعنية من إدارة مجتمعية للموارد والإنتاج، وعليها وعلى أمثالها يتم الاعتماد في مسألتي البقاء والفناء.

