يعتبر علماء «الأنثروبولوجيا» الإنسان البدائي، الذي عاش في بداية التاريخ لم يكن ناطقاً ولا يجيد الكلام كما هو اليوم، بل كان يستعمل لغة الإشارة باليدين ومن ثمّ عمد إلى تقليد أصوات الحيوانات مثل خوار البقر ليفهم الإنسان الآخر أنه بحاجة إلى اللحم والحليب، أو يقلّد زئير الأسد ليحذّر أفراد قبيلته من هجوم أسد جائع، إلى أن أخذ هذا الإنسان يتكلّم وتطوّرت اللغات وتعددت وتنوّعت ومن بينها لغات كثيرة أخذت بالانقراض في زمننا الحالي. وكم من لغة اختفت مع اختفاء المجموعات البشرية التي تتكلّمها.
وبحسب منظمة اليونيسكو ثمة لغة من بين لغتين، آيلة إلى الانقراض، في السنوات القادمة وذلك في كل أنحاء العالم ومن تلك اللغات إليكم هذه النماذج:
لغة الأرتشي، وهي لغة منتشرة في جبال القوقاز ويتكلمها حوالي 1200 شخص، نجد فيها ميزة معيّنة وهي القدرة على اشتقاق 1.5 مليون صيغة فعليّة من مجرد فعل واحد، كيف يحصل ذلك؟ علمي علمكم وعلى من يريد ان يعرف الكيفية، أن يدرس هذه اللغة ويفكك طلاسمها ومعانيها وطرق استعمال مفرداتها.
وهنالك لغة أيضاً تدعى الطاء Taa يجيدها حوالي 3000 شخص في أفريقيا وهي تمتلك 122 حرف صامت consonnes وحين يتكلّم الناطقون بهذه اللغة الصوتية يطلقون بواسطة ألسنتهم وأحناكهم سلسلة من الطقطقة واللّكلكة والتأتأة والفقفقة، مثل النقر على الخشب وآلات الإيقاع والصفير والزفير والشهيق والنفخ والشرق والبخ والوخ إلى آخره، مثل الذي يحتسي فنجان من القهوة او يكرع في صحن الشوربة بابتذال وقلّة تهذيب ويقال عنه أنه (يشروق)، المعذرة منكم حاشا قدركم كلّ الاحترام لحضرتكم!
ولا ننسى أن لهذه اللغة 33 مفردة للتعبير عن الرائحة!!
وفي مكان آخر من الكرة الأرضية، في الإكوادور تحديدا يتكلّم هنود (الكايابا) وعددهم حوالي 10,000 نسمة، لغة يقوم الفعل في الجملة المنطوقة بوظيفة إثبات مصداقية مصادر المعلومات.
فيا حبذا لو توجد مثل هذه الأفعال اللغوية التي تفتح أبواب الحقيقة، في لغتنا
العربية، حتى نتمكن من أن نفهم ولو نذرا يسيرا ممّا يقوله رجال السياسة في بلادنا ولا أقول إن العيب في لغتنا الجميلة والمعبّرة، بل في النوايا الخادعة والأذهان المريضة، صراحة أقول لم نعد نعرف من نصدّق أومن لا نصدّق من يقول الحقيقة أومن يكذب في الخطاب السياسي العام وفي الكلام الذي تنقله الصحافة إلى الناس.
الخطاب السياسي العلني نخره سوس العمالة منذ زمن طويل، وبيع الذمم والدجل والخيانة استحلوا عالم السياسة من باب السوشيال ميديا الواسع وغير المضبوط
وصار استهلاك الكلام مثل استهلاك الطعام قليل منه يقيت وكثير منه يميت مع الأسف.
كنا قد تعوّدنا منذ عقود طويلة، على خطابات فارغة وتافهة ولا شيء سوى قرع طبول مقعّرة من المساخر.
اعتاد رجال السياسة والاعلام في بلدنا استعمال مفردات تافهة سطحيّة وفي الوقت عينه مضللة ولا قيمة فعليّة لها، ولكن يصدقها الناس وقد اعتادوا وبنوا عليها؛ وهاكم بعض الامثلة:
ـ اتفقوا على ان لا يتفقوا.
ـ كلمة بتجنن وكلمة بتحنن.
ـ لبنان قوته في ضعفه.
ـ لا غالب ولا مغلوب.
ـ فلان بيعرف كيف بيخسر وبيعرف كيف بيربح.
هناك الكثير من الألاعيب الكلاميّة التي لا تعد ولا تحصى والمحزن أن الناس اعتادوها؛ صور بلاغيّة مؤلّفة من الطباق، والطباق هو تقنيّة تُستخدم لتأكيد المعنى من خلال الجمع بين كلمتين او عبارتين متضادتين؛ مثل طويل قصير، حار وبارد، جاف ورطب، بهدف إبراز الفكرة وتوضيحها بشكل أفضل!
ولكن حين يستعمل الطباق في الخطاب السياسي ننحدر إلى الهاوية ونغرق في مستنقع آسن من جدل عقيم، ويعمّ التكاذب وتستشري الخديعة والمؤامرات التي لا نهاية لها .
هكذا كان خطاب السياسة الذي أساء إلى اللبنانيين بشكل خاص وهو الخطاب عينه السائد في كيانات الأمة الأخرى، وهو مستمرّ منذ تأسيس هذا البلد.
ولا استغرب حين أرى السياسيين لا يزالون مصرّين على استعمال هذا الأسلوب و أقول لهم حان الوقت لتستعملوا كلاما شديدا ومؤثّراً على الجماهير استعملوا لغة تشبهكم وهي لغة أهل الكهف وعصور ما قبل التاريخ، قلّدوا خوار البقر وزئير الوحوش ونباح الكلاب وعواء الذئاب والضياغم وإذا وجدتم أن ذلك لا يليق بكم، استعملوا لغة مبنيّة على الطقطقة واللّكلكة والفأفأة والبقبقة وإرسال الأصوات المتناقضة المفرقعة المطقطقة، التي تفعل فعل الصدى المرتدّ كالصواريخ على جدران البرلمان والسرايّ والقصر الرئاسي على الشاشات المتلفزة، كونوا على الأقل في ظهوركم الإعلامي مثل الحساسين المغردّة في المقابلات التلفزيونية، والحسّون لعلمكم هو ملك من ملوك التغريد، يحفظ نوتات وتغريدات نسمّيها في الجبال” شقفة ” وهي تغريدات يطلق عليها مربّو الحساسين: تبلبل وتبسلك وملالي! أجل يا ليت الخطاب السياسي يستعمل لغة العصافير فيعود عليهم منطق الطير (وهوكتاب لفريد الدين العطار) بذي فائدة!!!
لو أن رجال السياسة يمسخون طيورا، لأجعلهم في قفص عصافير عملاق قضبانه من ذهب ومفتاحه من عقيق وقفله من زمرّد!أجل أحب أن أكرّمهم وأسجنهم في مكان يليق بهم وأقدم لهم أجود الحبوب وأسقيهم الماء الزلال وأستقدم لهم عصافير من الإناث قدر ما يشاؤون، ولكن ليبقوا في القفص!
وأذكّرهم أن العصافير عندما تزقزق تكون لها عذوبة وجمال ينبعان من الطبيعة وجنّاتها، سحر يدعو الإنسان إلى تسبيح الله وشكره على هذه المعجزات، ولكن حين يفتح هؤلاء أبواقهم يخرج منها عزيف العفاريت الذين يتنقّلون في بحران الغفلة والجريمة ويبثون أبخرة السموم والغازات الملوّثة بين قبور الشعب التعس حيث يلحد الأحياء والأموات على حدّ سواء وحفارو القبور ثلّة من المجرمين وتجّار الدمّ في خدمة رجال السياسة يعملون ليل نهار دون كلل مع ضحكاتهم الساخرة ووجوههم الصفراء المترددة بين شواهد المقابر …

