الاتحاد النسائي العربي الفلسطيني في لبنان: قبل النكبة وبعدها

40 جمعية ـ يرتفع العدد ويهبط تبعاً للظروف المادية ـ تُعنى بالحفاظ على استمرارية التراث الوطني الفلسطيني في 12 مخيماً للاجئين الفلسطينيين في لبنان. هذه الجمعيات التي اصطحبت نساؤها الإبرة والخيط والهوية التراثية معها منذ نكبة عام 1948 تعاني ـ كما الواقع الفلسطيني ـ من أزمات تبدأ بالشح المالي الداعم، وتمر بانعدام التسويق، وصولاً إلى «حصارات» متعددة. من بين هذه الجمعيات «الاتحاد النسائي العربي الفلسطيني في لبنان»

انبثق الاتحاد النسائي العربي الفلسطيني في عام 1944 في القدس إثر انعقاد المؤتمر النسائي العربي العام في القاهرة في ذات العام والذي ترأسته رائدة العمل النسوي العربي هدى شعراوي. وفي لبنان وإثر نكبة عام 1948 وتدفق أبناء الشعب الفلسطيني لاجئين بعشرات الآلاف وما كابدوه من معاناة معيشية واجتماعية واقتصادية وصحية وحياتية، كان لسيدات فلسطينيات ولبنانيات دورهن في تأسيس فرع للاتحاد في لبنان لتأمين ما أمكن من المساعدة، إلى أن نال ترخيصاً بعلم وخبر في عام 1956. ومنذ تأسيس الاتحاد في لبنان لم تتوقف نشاطاته الخيرية والاجتماعية والإنسانية، وقد سبقت أنشطة الاتحاد قيام منظمة التحرير الفلسطينية في عام 1964، لأن الطوارئ من ألوان الحياة التي طبعت الفلسطيني المقيم في أرضه، أو اللاجئ في الشتات. وللطوارئ سماتها ما بين التحدي والاستجابة، التقاعس والاندفاع، التربص والتطبيق. حالات من وصفات لم تكن جاهزة في حيوات الشعب الفلسطيني مذ بدأ المشروع الصهيوني ينذر بقرون تدميره لحياة هذا الشعب.

 منها على سبيل المثال لا الحصر ما أرشفت له وديعة قدورة خرطبيل في كتاب مذكراتها بحثا عن الامل والوطن _ستون عاما من كفاح امرأة في سبيل قضية فلسطين (صدر عن بيسان للنشر والتوزيع ـ لبنان)

أما منار حسن، الباحثة الفلسطينية والمتخصصة بعلم الاجتماع الحضري والجندر والاستعمار وما بعد الاستعمار والمجتمع الفلسطيني في إسرائيل، فقد وثّقت بكثافة مرجعية سيرة مجتمع فلسطيني في كتابها «المُغيّبات: النساء والمُدُن الفلسطينية حتى سنة 1948» (صدر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية) وكان عشية النكبة في خضم عملية تمدين، إذ كان بين 35% و40% من مجموع السكان العرب في فلسطين يعيشون في المدن« (من الكتاب)، إلى العديد من المراجع في هذا المجال والتي أسهمت في استحضار كينونة فلسطين وما كانته من نمو وتطور اقتصادي وتعليمي ومجتمع مدني آخذ بالتبلور إلى أن غدره الاستعمار البريطاني، الأب الروحي للاحتلال الإسرائيلي الاستيطاني.

بدايات النشاط السياسي النسائي في فلسطين

بدأت خطوات نشاط المرأة الفلسطينية السياسي، وخصوصاً ذلك المنضوي مع النضال الوطني والمناهض للانتداب البريطاني بما أنه أداة استعمارية/ كولونيا ليه، حوالي نهاية عشرينيات القرن الماضي. وكانت جمعية إغاثة المسكين أول جمعية نسائية فلسطينية موثقة في إطار تلك البدايات من العمل الاجتماعي/ النهضوي، وأسستها في عكا عام 1903 كل من: نبيهة الملكي منسي، نبيهة عدس، رفقة برغش يا كومي، ثريا حبايب، روزا صيقلي عزام، وفرح عيد حوا. ولكن مع بدء الاحتلال البريطاني وفرض الانتداب بدأت نساء في مدن فلسطين التاريخية بالمبادرة إلى تنظيم سياسات لغرض النضال القومي والوطني والمناهض له، فتشير حسن إلى الرسالة التي بعثت بها مجموعة نساء من الناصرة عام 1920 إلى المندوب السامي احتجاجاً على السماح بإقامة مستعمرة يهودية في منطقة العفولة في مرج ابن عامر.

كما انعقد مؤتمر النساء العربي في فلسطين في 26 تشرين الأول/ أكتوبر 1929 في القدس وحضرته نحو 300 امرأة من أرجاء البلد وخصوصاً من مدن يافا وحيفا واللد ونابلس والرملة وعكا وصفد ورام الله، وقد ناقش المؤتمر مسائل قومية واجتماعية واقتصادية ولكن الأهم أن المشاركات أعلنّ عن معارضة وعد بلفور وطالبن بإلغاء الانتداب البريطاني (منقول عن جريدة «فلسطين» بتاريخ 30 تشرين الأول/ أكتوبر 1929) وتقرر كذلك التعبير أمام السلطات عن المعارضة الشديدة لهجرة اليهود وللعقوبات الجماعية المفروضة على السكان الفلسطينيين، ومع انتهاء المؤتمر قررت النساء تنظيم تظاهرة يتوقفن خلالها أمام مختلف القنصليات لتسليم احتجاجاتهن. وقد عارض المندوب السامي البريطاني إجراء التظاهرة حتى أنه ضغط على وجهاء فلسطينيين لمنعها ثم كتب بعد فترة أن «حقيقة حضور النساء من دون نقاب تشير إلى خطورة الوضع» (ص 76 و78 من كتاب المُغيّبات).

أما خرطبيل فتذكر «… كانت أبرز هذه المظاهرات تلك التي طافت بشوارع القدس في 27 شباط/ فبراير 1920 وضمت 40 ألف فلسطيني وفلسطينية». كذلك تشير إلى «تاريخ المرأة الفلسطينية الكفاحي في مسيرة نظمتها مئات السيدات الوطنيات في عام 1921 حين توجهن إلى المندوب السامي البريطاني مطالبات بإلغاء وعد بلفور ووقف الهجرة اليهودية إلى فلسطين والكف عن تعذيب المناضلين الفلسطينيين في السجون»، وتكشف أنه تمخض عن هذه الخطوات «أول اتحاد نسائي فلسطيني في عام 1921 وأسسته ميليا سكاكيني وزليخة الشهابي وطرب عبد الهادي». وهكذا توالى تأسيس الجمعيات في القرى والمدن الفلسطينية بهدفين وطني وتطوعي، وهناك العديد من الجمعيات التي أسستها نساء فلسطينيات من الطبقتين الوسطى والعليا وكانت لهن أدوار في المجالات الاقتصادية والسياسية والنضالية الوطنية والاجتماعية ورعاية الأيتام والأرامل وتوفير تعليم مهن حرة، مع وجود منظمات نسائية عمالية ونقابات مهنية نسائية وهذه كانت أول محاولة معروفة جرت في عام 1943 في حيفا في اللقاء الذي عقد في النادي الكاثوليكي وفيه حثّت القائدة العمالية سلطانة حبيب الحاضرات على ضرورة الانتساب إلى العمل النقابي، كذلك شاركت الاتحادات النسائية الفلسطينية في المؤتمرات العربية، أما جمعية «زهرة الأقحوان» السرية فهي الأكثر تميزاً بمعنى المهمة التي أوكلتها إلى عملها، إذ تأسست الجمعية في الأربعينيات في نهاية عام 1947 أو مطلع عام 1948 على ما يبدو وكانت جمعية سرية نشطت في مجال المقاومة العسكرية وفي تقديم المساعدة والإسعاف الأولي ونقل الأسلحة والغذاء للمقاتلين الذين رافقهم أعضاء الجمعية من الإناث، وكانت مهيبة خورشيد المولودة عام 1924 من مؤسِسات الجمعية.

هذه الجمعيات عكست تطور الوعي الوطني والتعليمي والثقافي لدى طبقات وشرائح نسائية متوسطة وبرجوازية في المجتمع الفلسطيني الذي شهد أيضاً توسعاً في إنشاء المدارس وتعليم اللغات الأجنبية وانعكس في إقامة مؤسسات بلدية من أنواع متعددة مثل هيئات تحرير الصحف والمحطات الإذاعية والمسارح ودور السينما والمكتبات العامة والنوادي الثقافية والمجتمعية والمنظمات النسائية والنقابات المهنية والأحزاب ونوادي الكازينو والمقاهي والنوادي الليلية، ولهذه الأسباب شهدت وضعية النساء والعلاقات الجندرية في هذه الحقبة التاريخية تغيرات كبيرة تمثلت ضمن ما تمثلت في تغيرات طرأت على أنماط الحياة والأنماط السلوكية ومناهج الاستهلاك والمعتقدات الحياتية وفي نمو حركة نسائية إلى جانب حضور آخذ في ازدياد النساء في فضاءات المدينة العامة، نتوقف عند الاتحاد النسائي العربي الفلسطيني في لبنان، وحكاية التحدي والتجاوز.

نكبة… نزوح… إغاثة في لبنان

بعد تدفق آلاف من النازحين الفلسطينيين إلى لبنان خلال نكبة عام 1948 عمدت جمعيات وجهات إلى إقامة أنشطة تستوعب أوضاع هؤلاء، والعمل على تأمين إقامتهم، فكانت بداية في مخيمات لجوء في المناطق القريبة من الحدود الفلسطينية ـ اللبنانية، ثم تأمين العناية الصحية لهم. في هذا السياق برز اسم الاتحاد النسائي العربي الفلسطيني، ورئيسته وديعة قدورة خرطبيل، وكانت قد بدأت مساهماتها الفعالة في فلسطين قبل النكبة. وفي المؤتمر النسائي العربي العام الذي عقد في بيروت والمخصص لبحث قضية فلسطين، كان من المقرر أن يتم تشكيل هيئة جديدة للمكتب العربي بعد وفاة رئيسته هدى شعراوي. كان الأمر بالنسبة لخرطبيل يتطلب إجراء الاتصالات اللازمة بالمراجع الفلسطينية، لأنها لا تحمل تفويضاً من هذه المراجع، فكان الاتصال مع الهيئة العربية العليا فأبلغها أميل الغوري بأن حكومة عموم فلسطين قد فوضتها بالحضور والتمثيل، إلا أنها عانت في العثور على النساء الفلسطينيات المساعدات بعد الشتات الكبير، ولكن سرعان ما علمت أن السيدة ساذج نصار موجودة في منطقة سوق الغرب شرق العاصمة بيروت فاتصلت بها لتلك الغاية، خاصة أنها كانت قبل النكبة سكرتيرة الاتحاد النسائي العربي الفلسطيني العام في حيفا.

وقبل انعقاد المؤتمر وصلتها رسالة من زليخة الشهابي، رئيسة الاتحاد النسائي العربي الفلسطيني في القدس، بواسطة رئيسة الاتحاد العام تخبرها فيها بأنها لن تمثل فلسطين في المؤتمر، بل ستكون ممثلة للأردن وطلبت من وديعة خرطبيل تمثيل فلسطين عوضاً عنها. كان هذا يعني إلغاء التمثيل الفلسطيني نتيجة ضم الضفة الغربية إلى الأردن مما جعلها تشعر بالإرباك رغم أنها أصبحت حاملة لشرعية تمثيل المرأة الفلسطينية بالكامل.

يُحسَب للسيدة وديعة خرطبيل استمرارية عمل الاتحاد النسائي العربي الفلسطيني في لبنان وقد أصبحت رئيسته. إذ أنها لم تغب عن معظم المؤتمرات النسائية الدولية للحديث عن قضية فلسطين ونكبتها وحقوقها، فأمضت ـ على سبيل المثال ـ 40 يوماً في أروقة الأمم المتحدة مع الوفد الفلسطيني الذي رافق أحمد الشقيري في أيلول/ سبتمبر عام 1963. ومن وقائع أحد المؤتمرات الذي انعقد يوم 18 آب/ أغسطس 1955 في كولومبو عاصمة سريلانكا وعشية جلسة الافتتاح بدأ الاصطدام بينها وبين مندوبة إسرائيل التي أزعجها حضور مندوبة عن فلسطين، وعلى تمثيل فلسطين، إلا أن الجهود التي بذلتها ـ كما تقول قدورة خرطبيل ـ مندوبات الباكستان وإيران والهند والعراق وإندونيسيا حسمت الأمر في اتجاه قبولها ممثلة عن فلسطين في الاتحاد النسائي الدولي، واستطاعت قدورة بكل جهودها وعلاقاتها وقدرتها على التمثيل شرح معاناة نكبة فلسطين إلى فوزها بعضوية الاتحاد النسائي الدولي وسقوط مندوبة إسرائيل.

في لبنان تجذّرت أنشطة الاتحاد بأوسع اهتمام باللاجئين الفلسطينيين، فبادرن إلى شراء قطعة أرض في بلدة سوق الغرب شمال العاصمة بيروت، أُقيمت عليها مدرسة «بيت إسعاد الطفولة» في عام 1958، ضمّت أطفالاً لتعليمهم وتدريبهم على مهن وحرف، لكن الاجتياح الإسرائيلي للبنان في عام 1982 أصاب المبنى بالدمار. كما حثّت وديعة وزير الصحة بداية خمسينيات القرن الماضي على إنشاء مركز لمرضى السل بعد انتشار هذا الداء بين اللاجئين في لبنان.

وفي عام 1975 أنشأ الاتحاد مشغلاً لتشغيل النساء الفلسطينيات ـ وحتى اللبنانيات ـ ، كما تمّ إنشاء محترف دائم في مقر الاتحاد وهدفه إحياء وحماية التراث الفلسطيني. وفي عام 1984، أي بعد الاجتياح بسنتين، أعاد الاتحاد نشاطه، وافتتح مقاراً له في عدد من المخيمات الفلسطينية في لبنان، وأقام مشاريع على شكل قروض (وهذه من ضمن أنشطة الاتحاد) ومنها: كيف تؤسس مشروعاً خاصاً بك، ومحو أمية الأطفال، وتعليم مبادئ استخدام أجهزة الحاسوب والطباعة عليه للنساء والشباب، وأيضاً تنظيم دورات للخياطة والتطريز للنساء، إلى توزيع القصص على الأطفال، وإجراء مسابقات بينهم، ودعم التعليم الجامعي والمهني حيث تم إقرار منحة دراسية جامعية باسم وديعة قدورة خرطبيل. ومنذ عام 2001 باشر الاتحاد بالتعاون مع مؤسسة «ريشيركا إي كوبيراتسيوني» الإيطالية وبدعم من الاتحاد الأوروبي بتمويل مشروع قروض للاجئين الفلسطينيين في لبنان في خمس مخيمات فلسطينية واستفادت منها 900 عائلة. ونظراً لنجاح الاتحاد في إدارة المشروع ورد القروض، تسلّم نهاية عام 2004 إدارة هذا المشروع واستفاد منه 1500 شخص. كما قام الاتحاد بإحياء مشروع أطلق عليه اسم «جذور» ويهتم بالتراث الفلسطيني من خلال التطريز الذي تقوم بإنجازه نساء في المخيمات؛ تطريز على الوسادات، ومفارش الطاولات والحقائب النسائية، والأحذية، وشالات النجف، والقمصان والفساتين والعباءات وعَصْرَنة لمسات الموضة عليها مع الإبقاء على القطبة ذات الطابع الفلسطيني، إلى جانب استحداث التطريز على المصابيح والبرادي والأغطية وغيرها. وسبق للاتحاد أن تعاون مع مؤسسة «التعاون» والسفارة الكندية في لبنان.

من المخيمات إلى أوكرانيا

هذه الإنجازات والعديد غيرها من أنشطة الاتحاد أصابتها في الوقت الحالي الأزمة المالية والاقتصادية التي ضربت المصارف في لبنان، وقبلها بعام انتشار كورونا، وما تلاها من حروب متتالية في لبنان وعلى غزة، مما أدى إلى فقدان التمويل والتبرعات، وتخفيف الأنشطة، وغياب أسواق المبيعات.

توقفت المساعدات من المنظمات الدولية، وتحولت إلى أوكرانيا، كما أبلغت هذه الأطراف السيدة سامية الأيوبي خرطبيل، رئيسة الاتحاد حالياً. وتراوحت عروض تقديم المساعدة من مؤسسات رفضها الاتحاد لعدم قبوله بالشروط المفروضة من جانبهم، أو من مؤسسات اشترطت اقتصار تقديم الدعم لشراء مواد التنظيف للمخيمات وليس من أجل تأمين التعليم والطبابة كما طالب الاتحاد، أو من جهات توجّس الاتحاد من أجندتها.

جرّاء تَكَوْكُب هذه الأزمات في عنق الزجاجة، سارعت عضوات وأعضاء الهيئة الإدارية في الاتحاد إلى رفع رسائل إلى أفراد وأشخاص معنيين، وإلى مؤسسات وهيئات، لطلب المساعدة لتأمين استمرارية الأنشطة وتشغيل عائلات «ضَرَبتْها» الأزمة والأزمات الاقتصادية، لكن لا تجاوب، ولا ردود، ولا التفاتة من سفارات الدول العربية تحديداً. كما ولا استجابة لإقامة معارض في الخارج لمنتجات الاتحاد بما يساعدها على إمداد مشاريعها في المخيمات، والإبقاء على الهوية التراثية الفلسطينية في كل قطبة.

ليس هناك من وقت ضائع في مهام الاتحاد، فكانت مبادرته إلى شراء ملابس لأطفال غزة حالت ظروف دون تأمين وصولها إلى هناك، فوزعتها على أطفال مخيمات لبنان. كما أقام الاتحاد في شهر آب/ أغسطس المنصرم غداء بهدف جمع التبرعات لصالح صندوق غسان أبو ستة للأطفال، مستفيداً ـ الاتحاد ـ من سيرته الحسنة مذ بدأت في عام 1944 وما تزال، ومن مشاريع تحققت بأعلى درجات الأمانة والتنفيذ ـ بشهادات رفيعة تعاونت ـ، وبتواصل لم ينقطع مع كل المعنيين والمعنيات بالقضية الفلسطينية ومظلومية شعبها.