ثقافة المصالح

الثقافة كونها معرفة، لأنها تمارس على أرض الواقع، كسلوك بشري، هي مصلحة بحد ذاتها، لأية مجموعة بشرية تسعى لتكوين مجتمع على أرض الواقع، (مجتمع وليس مجرد تكوينات بشرية متساكنة)، وهو أي «المجتمع» القادر على التفاهم مع إدارته والتفاعل معها،  ضمن ما يسمى المصلحة العامة، التي عليها تجتمع إرادة وسلوك أعضاء المجتمع أجمعين، بمعنى أن المصالح، هي من يجمع الدوائر الاجتماعية عبر رؤيتها للمصالح حول مركز تدور حوله دون الانفلات من جاذبيته، ألا وهو الدولة، التي تدير مصالح الجميع بحيادية ومساواة، والتي هي نفسها تمارس الحلول عبر تقديم الفتاوي الدستورية والقانونية، لإزالة ما يقوضها، أو يفرّغ مؤسساتها من معانيها في خدمة المصلحة العامة.

المادة الأولية الأولى لإحداث المجتمع بالإرادة الحرة لأعضائه، هو السعي لتحقيق مصالحهم، فالمجتمع بالتعريف المعاصر هو اجتماع الناس حول مصالحهم التي لا يمكن الخطو نحوها‘ إلا بثقافة المساواة والحرية والتسالم، وعلى هذا الأساس يمكن للمجتمعين، يسعوا إلى مصالحهم وتطويرها، بما يناسب الإمكانيات التي تتيحها ثلاثية المساواة والحرية والتسالم، حيث ترتبط المصلحة بالهوية بشكل مباشر، بمعزل عن الشروط والاستثناءات، لافتراض أن هذه الثلاثية محمية بالدستور والقوانين، التي تحدد المسؤول والمسؤولية، وتحدد طرائق المحاسبة، وعلى هذا يصبح تحقيق الأعضاء، إجبارياً في دولة سليمة صحيحة، ومبنية بإرادة الأعضاء، وبما أن المصلحة مرتبطة بالإنتاج البشري (المجتمعي حصراً)، بالمعنى الحيوية للكلمة، فإن على الأفراد مسؤولية حمايته، عبر البنى المؤسسية، كالدولة بسلطاتها الثلاث المستقلة عن بعضها، والأحزاب، والنقابات، والجامعات.. إلخ، وفي افتقاد أي منظومة حكم لهذه البنى وغيرها، يضع الاجتماع البشري نفسه على سكة الفشل، وهنا لا يوجد عذر أو ذريعة لأية منظومة حاكمة يبرر الفشل المجتمعي، لأن هذا الفشل يعني تماماً العقم عن توليد دولة، وما الهياكل الإدارية التي تشير ادعاء إلى صورة دولة، ما هي إلا أجهزة تفتقد إلى الكثير من المقدرات المعرفية لتكون مؤسسة، ترعى مصالح الاجتماع البشري على سبيل تقويته ودفعه نحو الارتقاء، بما لا يقدر عليه الجهاز الذي يحافظ على الواقع كما هو، بينما الإنجاز المؤسسي المنافس يرتقي ويوغل في التقدم، تاركاً هوّة سحيقة، تتجلى في التحكمات الخارجية (من مساعدات، ومعونات، وقروض، وحتى التدخل المباشر عسكرياً كان أم سياسياً)، وهنا تتجلى ثقافة المصالح، والندم عليها في آن معاً، فالمسألة هنا ليست مبارة شطرنج، الرابح فيها ينال المجد ولذة الانتصار، بل مسؤولية أخلاقية، يمكن محاسبتها بالدساتير والقوانين، فالمجتمع ليس بنية ملائكية، يفرز رجال سلطة ملائكيون، لأننا نتكلم هنا عن مصالح الأفراد، التي في توافقها واجتماعها وحسن إدارتها، تبعد المجتمع ودولته عن سكة الفشل.

الثقافة بطبيعتها مستقبلية، وثقافة المصالح، معنية بمستقبل الأشياء، المتعلق هو الآخر، بالتطور والارتقاء بمعيار الإنتاج، وهذه المسائل جميعها تنافسية بالفطرة، فلا يمكن الركون إلى المنتجات الماضية (تكنولوجيات، علوم، حوكمة، آداب وفنون ..إلخ) والاستمرار بها، فهذه تخرج من سوق التنافس لتتحول إلى فلكلوريات، تفيد معاني البهجة والاعتزاز، ولكنها أبداً، لا تشكل مصالح مجتمعية ـ (ربما في قطاع السياحة) ـ صالحة للمقايضة أو لدخول الأسواق أو اقتحامها، وهنا تبدو الحرية كواحدة من أقانيم توليد المجتمع الحي، ضرورة غير قابلة للاستثناء أو المواربة أو التثريب والترشيد، فالعلم (مثالاً مع تطبيقاته التكنولوجياتية) لا يمكن أن يكون إلا مصلحة اجتماعية، بغض النظر عن توافقه أو تعارضه مع الفلكلور والتراث والتقاليد والأعراف، والعلم صارم بحياديته وبروده، وهو بالضرورة، وسيلة أساسية في تحقيق المصالح، وضبطه ضمن أشكال تقاليدية أو جهازية مُجهضة للحرية، يقوض المصالح المجتمعية (الدولة العثمانية منع الطباعة أكثر من مئتي عام، فهل يمكن حساب العقاب الذي نالته التجمعات السكانية  آنئذ وفيما بعد،  من خسائر وهزائم ومجاعات وأوبئة؟!!)، بما لا فككاك منه من متواليات التخلف الذي يتراكم ثم يظهر بشكل فاقة مصالحية، لم تتربى على الاجتماع البشري، بمعناه المعاصر (لكل حقبة زمنية).

مبدأ اجتماع مصالح البشر، هو ما جعلهم جماعات تعيش مع بعضها، ومن ثم ترتقي لتصبح مجتمعات بنت زمنها، وأي تصنيف للمجتمعات من خارج مصالح أعضائها، هو تصنيف انقسامي بطبيعته، فلا يرتجى خيراً بسببه، والمأساة هنا ليست توحيدية أو اتحادية  كدعوة لإحداث مجتمع المصالح، بناء على ثقافة المصالح التي تتيح الفرصة لهذا الإحداث، بل هي مسألة الوجود وهوية هذا الوجود، فالناس لا تجتمع على الأهواء والانتماءات الإيمانية والتقاليدية، بل تجتمع على الأمان والثروة، التي تحقق لها عيش كريم يليق بالحياة الإنسانية القيمة العليا للبشرية، وما دونها باطل وهزيمة وهوان، ولا شيء في الأفق يشير إلى أي نجاة، خارج تعريف الإنسان بما هو إمكانية مجتمعية للإنتاج، الذي هو من يحقق مصالح الفرد والجماعة، بغض النظر عن الشروط المسبقة، مثل النقاء العرقي أو العقائدي أو القبائلي، فكلها تجاوزها الزمن المجتمعي، المشكل من حقوق وواجبات، يتساوى أمامها أي كان.