كان السريان الآراميون عبر التاريخ مشاعل العلم والنور والحضارة، ففي القرن الرابع الميلادي أسسوا في مدينتهم التاريخية نصيبين السورية أقدم أكاديمية علمية في المنطقة، قبل أن تحتلها تركيا عام 1923.
نصيبين، المدينة السريانية الآرامية الجذور، اشتهرت بمدرستها الشهيرة مدرسة نصيبين التي أصبحت من أبرز مراكز العلوم واللاهوت واللغة السريانية في الشرق.
بعد احتلال نصيبين القديمة، أسس السريان مدينة القامشلي التي تحولت إلى عاصمة الثقافة السريانية في الجزيرة السورية. هناك أنشأوا الجمعيات الثقافية والأندية الرياضية والكشفية والفرق الفنية والمؤسسات التربوية. وإلى جانب كل كنيسة بنوا مدرسة سريانية، فدخلت القامشلي ما يمكن وصفه بـ «العصر الذهبي للسريان» منذ عشرينيات القرن الماضي وحتى عام 1958 مع قيام الوحدة بين الشام ومصر، ثم انقلاب حزب البعث عام 1963 الذي غير المشهد بالكامل.
فقد تعرض السريان منذ تلك السنوات لحصار ومضايقات، أُغلقت مدارسهم وأُوقفت أنشطتهم الثقافية، وصودرت مدارس عائدة لكنائسهم في القامشلي والحسكة وتل تمر. مع أن هذه المدارس كانت تضم أكثر من خمسة آلاف طالب من مختلف مكونات الجزيرة. وأُخضعت المدارس الخاصة لمشرفين بعثيين وأنظمة مقيدة، حتى كادت التجربة التربوية السريانية أن تُمحى.
رغم ذلك، ظل البعض يروج، خصوصا من أطراف كردية، أن السريان والأرمن يتمتعون بامتيازات تربوية وثقافية، بهدف تصوير الكرد وحدهم كمحرومين من حقوقهم. والحقيقة أن السريان، كما الأرمن، لا يملكون أي اعتراف رسمي بلغتهم أو ثقافتهم في الدستور السوري، وما يدرس من سريانية أو أرمنية يبقى ضمن إطار الطقس الكنسي فقط. والمدارس الخاصة التي تدرس هذه اللغات تمول كليا من أموال الأهالي دون أي دعم حكومي، حتى أن حصص اللغة السريانية لا تتجاوز الأربع حصص أسبوعيا، وأي مبادرة حكومية –مثل مدرسة معلولا– وتعزيز اللغة الارامية، لم تكن سوى لأهداف سياحية لا أكثر.
ومع اندلاع الأزمة السورية وظهور الإدارة الذاتية الكردية، وجد التعليم السرياني نفسه عالقا بين قراراتها وضغوط الحكومة في دمشق. الإدارة الذاتية حاولت إغلاق المدارس السريانية بحجة أنها «غير مرخصة»، ورفضت تدريس مناهج غير كردية. أما الكنائس والفعاليات الشعبية فأصدرت في 18 آب 2018 بيانا رافضا لما اعتبرته اعتداء على الحقوق الثقافية، مؤكدة أن إغلاق هذه المدارس يمثل ضربة خطيرة للوجود السرياني في المنطقة. وبعد ضغط شعبي وتدخل خارجي، جمد قرار الإغلاق مؤقتا، لكنه ما زال مهددا بالتنفيذ في أي لحظة.
على الجانب الكردي، بدأ تعليم اللغة الكردية بشكل سري قبل الحرب، ثم ظهر علنا عام 2011 عبر دورات تعليمية، وتوسع عام 2012 بدخول اللغة الكردية إلى عشرات المدارس في عين العرب (كوباني). ومع عام 2014 أُسست مؤسسة المناهج التابعة للإدارة الذاتية التي وضعت مناهج كاملة بالكردية، وجرى تعميمها تدريجيا على جميع المراحل الدراسية في الجزيرة وعفرين وكوباني حتى عام 2020. لكن هذه المناهج تبقى غير معترف بها رسميا في سوريا أو خارجها، ما يهدد مستقبل آلاف الطلبة بحرمانهم من متابعة تعليمهم الجامعي.
لم يقتصر الأمر على فرض المناهج، بل تعداه إلى تغيير هوية الجزيرة السورية التاريخية. فكما سبق أن قام حزب البعث بـ «تعريب» الكثير من الأسماء السريانية والأصلية للمدن والقرى، تقوم اليوم الإدارة الذاتية الكردية بخطوة مماثلة عبر تكريد الأسماء، فتستبدل التسميات السريانية أو العربية القديمة بأخرى كردية. وهكذا تستمر عملية طمس الهوية الحضارية المتجذرة للمنطقة، لكن هذه المرة تحت شعارات مغايرة.
من حيث المبدأ، من حق كل مكون سوري أن يعتز بلغته وثقافته وأن يسعى إلى نشرها، فالتنوع الثقافي ثروة للنسيج المجتمعي الواحد الذي تتشكل منه سوريا. لكن حين تحتكر سلطة واحدة القرار وتفرض لونا ثقافيا واحدا بالقوة، فإن ذلك يقود إلى تصحر فكري واجتماعي، ويهدد التوازن الديموغرافي والثقافي، بل ويسرع من تدمير النسيج السوري.

