من الواضح للغاية فشل التشريعات الطائفية في ممارسة الحكم في البلدان السورية، وقبلها فشلت هذه الممارسات التشريعية الطائفية في كل بلدان العالم، ضمن ممارساتها لإحداث المجتمع الحديث، وتوليد دولة حديثة منه، خصوصاً أن بلداننا في مواجهة إستحقاقين إثنين يكشفان عن سؤالين صعبين، من المستحيل الإجابة عليهما، بحضور الأداء الطائفي شكلاً أو مضموناً، أو حتى بالإيحاء، الأول سؤال التنمية، والثاني هو سؤال الهوية، وهما سؤالان مرتبطان عضوياً، في كافة مناحي ممارسة الدولة، كما هي معروفة الآن في هذا العصر والأوان، ضمن إنجدالها مع البيئة وإمكاناتها المتاحة أو المتوقعة، لتوفير الحد الأدنى لممارسة دولة، وهنا وفي هذا المطب المأزقي المتوالد، تقبع الدولة في البلدان السورية، تنسج بيديها حبالاً لتشنق نفسها، بعناد منقطع النظير، وعصي على الفهم والتفاهم.
فسؤال التنمية، هو سؤال عن شريان الحياة الذي يمد السكان بالطاقة والحيوية، لمتابعة وتطوير الإنتاج، في سياق محلي وأممي، لا يمكن التراجع عنه وإلا الوقوع في الفاقة وتحكم الآخرين، والإنتاج مسألة تأسيسية في الوجود البشري، ليس من ناحية الاكتفاء الذاتي فقط، بل وأيضاً وأساسياً من باب المقايضة مع الآخر المفهوم والذي يمكن التفاهم معه دون قسر حربي محفوف بموازين الربح والخسارة، لتبدو مسألة التنمية هي مسألة تحشيد إمكانيات الإنتاج وتحفيزها على كافة مستويات الأداء المجتمعي، تحت سقف المساواة المطلقة، التي لا يمكن للطائفية تحقيقها، في ظلال التمايز الحقوقي الطوائفي، المنتج للمظلوميات، التي أشد تخريباً ووحشية عن الظلم الأول المؤسس، لأنها تتميز أولاً بخاصيتي الثأر والغدر، وهذا ما يحولها إلى متوالية ممارساتية لا نهاية لها، معطلة الإنتاج وبالتالي التنمية، من خلال تبعثر وتذرر المصالح الجامعة….. إذن لا تنمية والمناخ الطوائفي مسيطر على أداء الدولة، وليس هناك إلا بضع خطابات تعلن النوايا كوعود، مع التذكير دوماً أنه لا عصى سحرية يمكنها تحقيق هذه الوعود، ومع الفشل في التنمية يتم إستبعاد الطائفية عن أسباب هذا الفشل، وتحميل الأسباب إلى قوى سوريالية لا يمكن التأكد من صحتها، وأمها المؤامرة، أو المقاطعة والعقوبات، التي لا سبيل “للمواطن” إلى معرفتها أو المشاركة في مقاومتها، وما عليه سوى تحمل تبعات إخفاق التنمية من لقمته، مبعداً كل شبهات إتهام الطائفية بالتسبب في فاقته، بناءً على قمع مركزي يلغي دور “المواطن” بالتصحيح، أو حتى مشاهدة الملك عارياً. هذا ما وصلت إليه البلدان السورية، التي تجتمع صفاتها عل فاقة في كل شيء، عدا فائض العنف الطائفي، الذي يزيّن لنفسه على أنه طاقة الحق المطلقة.
أما السؤال الثاني أي سؤال الهوية، فجوابه معطل حتى قيام التنمية ودوران عجلتها، وتذوق مكاسبها، وهذا مستحيل، لأنه معطوب عضوياً وعملياً بالطائفية التي تستهلك الإمكانيات الأكبر التي تحتاج التنمية إلى توظيفها واستثمارها، هذا من جهة، أما من جهة ثانية فالهوية هي إعلان وجود للآخر الذي لا تحترم وجوده هذه الطائفية، ولكن الأشد تأثيراً، هو انعدام الإنتاج الأصلي، الذي يستخدمه صاحب دعوى الهوية للإشارة إلى نفسه وبالتالي إلى وجوده الإيجابة واستعداده للمشاركة والمنافسة في الحضارة الإنسانية، وهنا لا أهمية لأي تراث في صناعة هوية، فالإنتاج هو الهوية، وممارسته وممارسة التصرف به على أسس المقايضة الحضارية، هو ما يجعل هذه البلدان مرئية على خرائط المصالح، وإلا ستبقى مخططات التحكم وامتصاص الثروة قائمة، وهذا أيضاً يحتاج إلى التخلف، وتشويش الهوية بقلة الإنتاج أو انعدامه، عامل حاسم في تكرار إنتاجه وهذا ما تتربع على قمته الطوائفية، بوصفها إعدام حقوقي للمساواة، وإبادة حقيقية لاستحقاق الدولة المعاصرة.
المسألة لا تكمن في كشف أسباب الطائفية، أو حتى تبريرها، فهذه كلها تتموضع خارج السؤالين الآنفين، فالطائفية موجودة، والمحاصصة تؤكدها وتباركها، والتشريع يجذرها، والممارسات الجهولة تقيمها كأصنام غير مرئية تتم عبادتها، وكل هذا موجود وملموس، ولكنه خارج عن دورة الحياة الطبيعية فيما يخص التنمية وتوأمها الهوية، كعطب سرطاني لا ينتهي مفعوله قبل الفناء، والتجريب في هذه المسألة هو ضروب من الشعوذه والوهم، فتكنولوجيات العصر (المجتمع والدولة منها) عناصر محايدة ما ورائياً، مثلها مثل جميع الأدوات التكنولوجياتية، تنعطب نتيجة الاستخدام المغلوط ، وتنهار نتيجة الإصرار على طريقة الاستخدام، وبذلك تختل التعاريف عن وظيفتها المعرفية في إحداث الوعي، والتنمية والهوية، ليستا خطب في الإعلام، بل هي إجراءات تحتاج إلى إمكانيات واقعية مجربة وموثوق بها، حتى الآن لم تقارب الطائفية عملية إجتماعية إيجابية إلا وبعثرتها وقضت عليها، وليس للمواطن العادي جداً، إلا أن يفهم هذه الواقعة، من باب تأثره بالفاقة على الأقل، أو رؤيته المعرفية لواقع و مستقبل، التنظيم الاجتماعي الطوائفي على الأكثر، حيث المستقبل لا تقل حلكته عن غموضه، ليتحول سؤالي التنمية والهوية، إلى سؤال الوجود، الذي تنفتح أمامه كل الطرق للمحافظة عليه، بما فيها الانتحار، بواسطة إبادة الآخر، المختلف في هويته البدائية جداً، والتي لم تعد تصلح للاستخدام…. ألا وهي الطائفية!.

