في مؤلّفه الشهير: «التاريخ القديم لشعوب الشرق» يقول عالم الآثار المصرية الشهير ماسبيرو والمعروف جدا في الأكاديميات والأوساط العربية خاصة لدى من يدرس مادة التاريخ في الجامعات:
من خلال الجغرافيا محكوم على سورية أن تكون تحت الحكم الأجنبي، ولو أن هذا البلد عرف الحريّة لفترات وجيزة لن يطول به الأمر ليعود إلى الانقسام ويتشرذم إلى فئات ومجتمعات متصارعة. وكلّ مجتمع ولو كان صغيرا فسوف يطالب باستقلاله ولا تتوقف هذه المجتمعات عن التقاتل، إلا عندما يسيطر عليها سيّد قادم من الخارج.
هذا ما قاله عالم الآثار الفرنسي في القرن التاسع عشر وهذه هي عقليّة المستعمر الغاصب الطامع صاحب الأفكار الشريرة، التي يعلنها من دون حياء أو وجل على لسان أحد أشهر وألمع العلماء.
هذا العالم ماسبيرو الذي درس حضارة الفراعنة المعقدة ولم يخف عليه حرف واحد من حروفها أو نقش من نقوشها، يمثل عقلية الاستعمار كما هي، لكن ما خفي عن الغرب المستعمر الذي بقي في جهالته العمياء يستلذّ بمغانمه و قرصنتاه، هو أن يكون لسورية زعيم تاريخي مثل أنطون سعادة وقد حمل مشروعا حضاريا اقتصاديا اجتماعيا تاريخيا سياسيا لم يكن له من مثيل في السابق . هدف
مشروع سعادة كبير وعظيم، ولكن أهمّه الوقوف في وجه هذه المخططات التي تخطط لإبادة شعبنا والتي لم تتوقف منذ 2000 سنة على الأقل.
كان الخطر ولم يزل، يوم خرج من اليهود أحزاب متحاربة منقسمة هي الأخرى على نفسها : «صدوقيّون» ( ولا أعرف ما علاقتهم بالصدق والصداقة والصدقة ) يؤمنون بأن الرّوح غير موجودة في الإنسان بتاتا ولا قيامة للأرواح بعد الموت و «فرّيسيّون» يؤمنون بالشياطين والأرواح النجسة و حلال سرقة الفقير بالخدعة ليزيد ثراؤهم بشكل فاحش، فانقسموا على بعضهم البعض وغزوا العالم بالدمار والخراب ولا يزالون حتى يومنا هذا، وهم لا يتورّعون عن المغالاة في الانتقام من كلّ الشعوب، فأشعلوا حروبا عالمية وأزمات اقتصادية وتلاعبوا بالبورصة تنافسا و إفقارا لحكومات العالم و تبخيسا لأسعار العملات، وصولا الى أزمات الطاقة والحروب التي نشهدها في يومنا هذا .
ولكن مع قدوم فكر أنطون سعادة القائم على الوحدة الاجتماعية ضمن الأمة السورية، أتاهم من يقول كفى، ووقف وقفة عزّ أمام سياسات الإخضاع والاستعمار العالمية، أتى ليقول كفى للتنفيذ العمى لخطط الإبادة، أتى ليقول أن ثمة أمة تامّة لها نهضتها التي يصنعها شعبها وليس شعوبها الصغيرة المنقسمة كما أرادها ماسبيرو وغيره من أصحاب المخططات الجهنمية للنيل من أمة حرّة كانت ولا تزال تعاني الويلات. ما قاله ماسبيرو لم يكن حديثا عبثيا، بل ترافق مع ما أدلى به ؛ قيام أول محفل ماسوني تمّ إنشاؤه من قبل الغرب المستعمر عام 1859 في بيروت فكانت مذابح 1860 النتيجة المباشرة ثم بعد ذلك اعتمدت سياسة القناصل تمهيدا لوضع اليد على سورية ونهش خيراتها وإبادة أبنائها، لكن مع بزوغ فجر نهضة سعادة تبدّلت كل الموازين و قامت جبهات التصدّي والمقاومة وتعددت ساحاتها، ومن يدخل الى تعاليم هذا الحزب ومبادئه يجد كل أدوات النهوض للأمة وللإنسان الذي على أرضها ففي هذه الأمة كلّ خير وحق وجمال وكل معرفة ترفع الإنسان القديم وتصنع منه الإنسان الجديد السوري الحقيقي الذي أدرك حقيقة الوجود ووضع مفاهيم العدالة والسلام وفهم مبدأ المادة والروح وارتباط الإنسان بالمجتمع والإنسان الآخر على قواعد سامية عادلة لا تفرقة فيها ولا طائفية بحيث يعمل الإنسان ويعيش فيساعد ويتآخى مع ابن أمته وينهضان سويّة بالمجتمع، فلا منّة من طبقة على طبقة ولا من طائفة على طائفة ولا من سلطة على سلطة في جوّ من الحرية والواجب والنظام والقوّة كل ذلك تحت ميزان العدل ونور العقل والمنطق والأخلاق.
لقد أدرك الزعيم المفدّى حقيقة هذا الغرب وعرف أطباعه ومنطقه الشرير وأطماعه التي لا تقف عند حدّ، هذا المجتمع الغربي النهم صاحب الدوافع اللصوصية المتوحّشة، الذي فضحه فيلسوف شعار «الغاية تبرر الوسيلة» نيكولاس ماكيافيللي الذي قال:
رغبات الإنسان لا تشبع، ومن طباعه أن يرغب ويشتهي كل شيء، وهو طبعا دائم التذمّر والتبرّم، يكره ما لديه، يلعن الحاضر، يمجّد الماضي ويرغب في المستقبل وكل ذلك من دون أي محرّك منطقي.
لقد تفانى سعادة في دعوة أبناء الأمة الى الدفاع عن الأرض فعل ذلك حتى اغتالوه ومعه الدعوة إلى التحرر والاستقلال واستعادة الحقوق وها هو يقول في عدد من (المجلة) سنة 1925:
لقد دعونا أبناء وطننا ولا نزال ندعوهم الى التضامن والوقوف بعضهم الى جانب بعض كالبناء المرصوص لكي نتمكن من الدفاع عن حقوقنا وصدّ هجمات المعتدين علينا وعلى وطننا ويسؤنا كثيرا أن نرى كثيرين يقعدون عن تلبية دعوتنا وهم لا يدركون أنهم يحقّرون بذلك أنفسهم وجنسيتهم تحقيرا يخجل منه كل إنسان يعتبر نفسه إنسانا حرّا.
بهذه الكلمات الرائعة الراقية والوطنيّة كلمات الزعيم الخالد نتوجّه الى كلّ حرّ كريم والزمن زمن المعركة والنضال!