في صبيحة 8/7/1949 ، توقفت ماكينة أنطون سعادة عن الإنتاج، بذريعة الاغتيال، حيث بدا الصمت التالي لهذا الاغتيال المصمم بارتجال سياسي ضيق المعرفة، وصغاراً عبر باختصار عن نوعية رجالات السياسة المطلوبة لقياد بلاد لم تكن موجودة على الخريطة، قبل تحققها في مقسمة سايكس/بيكو، لتحديد مآل شرفة العالم، بدا ذلك الصمت، وكأنه إعلان عن التسليم للقوة الغاشمة مرجعية تعبر عن الموافقة والرضى، في تعطيل واضح ووقح لتعاريف المجتمع والأمة والوطن والدولة، وما ينتج عن تلك التعاريف من استحقاقات يجب تأديتها لإحداث الارتقاء المطلوب للتوازي مع الأمم والشعوب الحيوية الناهضة، وأخذ مكاناً واضحاً مبنياً على المصالح، في منافسات لعبة الأمم، التي ما زالت قائمة بكامل وحشيتها إلى يومنا هذا، وما حدث علينا ما بعد يالطا ( سايكس/بيكو جديد) يفضح تلك الابادية الاستعمارية للتفكير والتعبير كعناصر تأسيسية لصناعة الأوطان. وبقيت البلاد على حالها الأسوأ، دون تبديل إلا في ذرائع القوة الغاشمة، التي تدير بلاداً مصممةً على قدّ مصالح لعبة الأمم، وهنا ليس المقصود أن لعبة الأمم وحدها من يقرر ذلك، بل الأداء المجتمعي غير المعرفي المنتج للضعف الذي يولد الويل والهوان. منذ استشهاد أنطون سعادة، وتوقف ماكينة البحث والتفكير لديه كشخص، لما تزل إقتراحاته المعرفية موضع تفكير وتمحيص واستكشاف.
الصمت هو الحالة الوحيدة التي رضي بها ويرضى عنها أوصياء الإدارة الاجتماعية ( لا أقصد المجتمعية)، وعلى أساسه يتحدد إذا كان هناك سلم اجتماعي أم لا، هذا الصمت تحديداً هو من فرّخ، تلك السكونية العالية في هذا النوع الشاذ من الاجتماع البشري، إذ لم يستطع المجاهرة بالمطلوب الأول والمؤسس، ألا وهو المجتمع، المبني على الأسس المعرفية التي وصل إليها الإنسان في القرنين العشرين، والواحد والعشرين، الذي يرسي العيش على قاعدتي المساواة والتسالم، المنتجتان للدولة، وتم تثريب ومن ثم تجريم أي حراك اجتماعي معرفي، يعبر عن الحيوية البشرية، كتصرف كاسر للتعايش والسلم الأهلي، فضجت التجمعات السكنية لهذه البلاد، بحراكات شعبوية تريد تحويل الفلكلور إلى تراث والعيش فيه، هاربة من كل استحقاقات المواجهة المجتمعية التي تقوم على المعرفة، كمعركة تنافسية في لعبة الأمم، كي يقوم “المجتمع” بدوافع وإمكانات ذاتية بحماية نفسه ومصالحه ذاتياً، في لعبة دنيوية وحشية قائمة على مقايضة المنافع والشرور، والاستمرار في المنافسة كقدر وحيد، لا يمكن أخذ استراحة منه. وهكذا في لجة الصمت الاجتماعي توالت مصائب بلدان سورية، دون الاقتراب من تخوم المجتمعات الحديثة الصالحة للبقاء، كحالة منتجة وإبداعية ليس لأحد مصلحة بالقضاء عليها، وهنا لا يمكن النظر إلى هذه المسألة كعربة وحصان، وما يتناسل عن هذه الحالة السكونية من أمثلة عبثية توقف العربة والحصان معاً لصالح سلطة من لدن هذه الأسئلة العمياء.
في السعادية دعوة واضحة وجلية لبناء مجتمع المصالح الدنيوية، كتكنولوجية لخدمة مصالح أعضاء الاجتماع البشري، على مافي هذه التكنولوجيات من مواصفات حاسمة تجاه الصراحة والصدق والنقد والانتقاد والإنتاج والقعود عنه، والإبداع والاجترار والى ما هنالك من عمليات مجتمعية، أو بمعنى آخر أنها ضد الصمت المدقع والمفقر لهذه لحيوية الاجتماعية، معتبرة (أي السعادية) أن الحق في العلم والمعرفة، حق عمومي وإجباري من أجل إنتاج وتداول سلوك جمعي متفاعل مع بعضه، ومع مستجدات عصره بكل مسؤولية لأن في ذلك خدمة لمصالحه، قاطعاً الطريق على سيطرة ثقافة النخبة من (سلطة، وعسكر ومتمولين) في التحكم بالسلوك الاجتماعي المبني على المعرفة المعرفة المعاصر، بما يرفد الدولة بما هو مفيد للنجاح في إدارة مصالح الاجتماع البشري (مجتمع أو دون المجتمع)، بما يشبه تمويل الدولة من الضرائب، فكلما ازداد الإنتاج، ازداد التحصيل، وازدادت الخدمات وتحسنت، وكذلك في السلوك الاجتماعي المعرفي المعاكس للصمت، فكلما ازداد حيوية ازدادت موارد الدولة، وعليه فإن تأسيس المجتمع وانبثاق الدولة عنه، مشروط سعادياً، بالمعرفة، أي بالحة التطبيقية الممارساتية للعلوم المعاصرة، ومنها علوم السياسة والاجتماع ..إلخ، وهذا ما يجعل دور النخبة الصغرى منسجماً مع السلوك الحيوي لأعضاء المجتمع، فكلما توسع جمهور المعرفة والتعبير عنها، توسعت اهتمامات هذه النخبة وصارت أكثر دقة واختصاصية في خدمة هذا الجمهور المتعلم والعارف بالنقد (وليس الانتقاد فقط)، مما يشكل توازناً تنافسياً عنوانه المسؤولية والتداول. لذلك لا يبدو المطلوب السعادي في تأسيس مجتمع النخبة ، مثالياً أو حتى واهماً، بل هو ضرورة، حتى لا تتحول سيرورة الاجتماع البشري، إلى ما يشبه حالنا اليوم، فهذه الحال (منسوبة إلى أي معيار معاصر) هي حال الويل، الذي لا يملك اجتماعنا الحالي، إلا الانصياع له بكل صغار ممكن، تفادياً لخسارة نتف هوية مزقها الصمت المعبر تماماً عن شح المعرفة.
الضجيج الشعاراتي هو معادل للصمت، فالوعي لا يصنع من شعارات كهنوتية، يمكن تدبر معانيها بالتفسير والتأويل حسب مصالح النخب، بل ببناء أنموذج اجتماعي معرفي، قادر على تغيير ذاته ارتقائياً حسب علوم ومعارف العصر، هذا الأنموذج يعمل على نسق ( وليس على رتل)، حيث تقوم المعرفة بتغذية ذاتها عبر النقد الإبداعي (تماماً مثل الضرائب)، ليصار إلى صياغة تجربة بشرية مشرّفة، توازي ما هو مستلف حول الإنسان وإمكانياته، والإعتزاز الوطني بها، فإما هي هلس وتدليس، أو هي إمكانية حقيقة تستحق مكاناً تحت الشمس.
مجتمع النخبة، هو مطلب البلاد الحقيقي، وهو من الناحية الحقوقية، مطلب سعادي بامتياز، لأنه الضامن المعرفي لتطورات التنظيم الحقوقي في العالم، لجهة أن أي إرتقاء حقوقي في العالم يوازيه قوة مجتمعية تدعم التنافسية الأممية المعمول بها في هذه الدنيا وفي هذا العصر، فالتخلف أو التقصير بالتطور الحقوقي، هو في حقيقته انهزام أمام قوى الأمر الواقع العالمية، مما يعيد «يالطة» أخرى ثانية وثالثة إلخ، إلى البلدان المقصرة، لنصبح متسببين في استعمار جديد آخر.
خارج مجتمع النخبة الذي تصنعه المعرفة وبالأخص الحقوقية، هناك المجتمع الطائفي، والقبلي، والتراثي، والطبقي إلخ وكلها إجتمعات غير مصلحية، وكلها تتقبل الويل، وكأنه قدر لا سبيل لرده، وعليها تتأسس واهية البحث عن هوية، لإشهارها في وجه الآخر على طاولة لعبة الأمم.
اليوم لا سبيل آخر، للولوج إلى هذا العالم المتلاطم، دون قوة ذاتية واقعية، غير مؤجلة، ولا تعيش في الماضي، سوى الضخ المعرفي في أوردة هذا الاجتماع المصنوع استعمارياً، كمجتمع بدائي لا حق لأعضائه بالحياة أو الكرامة، حتى يعرفوا إمكانياتهم ويستثمرونها، ليصير هذا الاجتماع إبداعهم الذاتي معبراً عن مصالحهم … وفقط.