لا يمكن تقديم أي قراءة لثقافة الاستشهاد إلا باعتبارها فعلًا مؤثرًا في المجتمع، فلا ثقافة من دون أثر وتأثير ومناخ وحاضنة وإنتاج وتبشير… حين تكون الأمة قابلة لإدامة الفعل الثقافي، فهي أمة يمكن لها أن تبني حضارة قابلة للتمدد والتأثير حتى في المجتمعات الأخرى.
ويشير مفهوم التضحية فلسفيًا إلى الترك والتخلي عن شيء مهم لدى الإنسان من أجل شيء أهم، قد يكون مبدأً أو معتقدًا أو إنسانًا. فالإنجاز العظيم هو وليد تضحية عظيمة، ولا يمكن له أن يكون وليد أنانية قبيحة.
في هذا الاتجاه، أخذت دلالات ورموز الاستشهاد في حياتنا اليومية بعدًا جديدًا وخصوصًا بعد استشهاد الزعيم أنطون سعاده، لتصبح لغة حقيقية تغني عن الجمل أو الكلمة المفردة، وقد انسحبت هذه الدلالات والرموز على مفاصل حياتنا ومنها الحياة الثقافية، فعندما نتذكر وقفة عزه فجر الثامن من تموز يتبادر إلى الذهن دور الموت الملحمي. وإذا ما قلنا سعاده فهو دلالة على أن الموت في سبيل العقيدة والفكر هو حياة أخرى لا يفقهها إلا الذين نذروا أنفسهم في سبيل نهضة وطنهم وأمتهم.
فالشهادة هنا كرمز ودلالة ثقافية تعمّق فكرة انتماء السوري لأرضه، لأن طابعها الروحي جعلها لصيقة ودائمة في مجتمعنا، بحيث كلما مر زمن عليها ازدادت ثراءً وقوة، وهي عكس الرموز المفتعلة التي تظهر فجأة لتختفي وهذه لا تؤسس لخطاب سياسي أو ثقافي وقومي دائم إنّما تؤسس لخطاب فردي غير ثابت يدلّ على المحاصصة السياسية فقط.
فضيلة فكر سعاده أنه يسأل… يقول فولتير: «إن تقييم أي إنسان يعتمد على الأسئلة التي يطرحها».
فالمجتمعات، وبخاصة المأزومة منها، ستبقى عارية كأشجار الخريف، طالما بقيت من دون أسئلة لنظامها السياسي. أي مجرد مجتمعات دون آفاق للمستقبل، ولابد لنا من القراءة بحثًا عن أجوبة على الأسئلة التي تقلقنا، وبحثًا عمّا يُسكن هواجس مجتمعاتنا المضطربة، فـ «قوة الإنسان تكمُن في قدرته على طرح الأسئلة، أكثر ما تكمُن في قدرته على تقديم الإجابات» كما يقول الشاعر أدونيس.
ولطالما كانت الأسئلة مجسّات المعرفة، وتجليات الفكر الفعال، وقد تكون مؤشرات العبقرية والخلق وهي كذلك عند سعاده، ودائمًا ما طرح العباقرة أسئلة مهمة ومنذ الطفولة. هل نتذكّر أسئلة سعاده وهو في ريعان الشباب ومثلها المجتمعات التي هي في سباق نهضوي… فالأسئلة مفاتيح للإضاءة ولا يطرحها غير العقل الفعّال والنظام المصمّم على العمل، وعلى البحث عن العلل والأسباب للمتاعب والعقبات والظواهر ولتطوير الحياة… ولذلك جاء سؤال سعاده المعرفي/ الفلسفي: مَن نحن..، واستتبعه بسؤال آخر: ما الذي جلب على شعبي هذا الويل؟ لتنتهي الأسئلة على الرملة البيضاء: «أنا أموت أما حزبي فباقٍ..»، فهل كنتَ يا زعيمي تسْتعْجل رسم قبْلتكَ على جبين الأرض، كي يكون الرحيل إليها معطّرًا بالحب؟
***
كان طبيعيًا أن يستشهد سعاده، فقد شكّل عائقًا كبيرًا أمام المشاريع الاستعمارية ومنها قيم كيان استيطاني/ استعماري في فلسطين في ذلك الوقت.. ولعلنا نسترجع ما كتبه رئيس الجامعة الأميركية في ثلاثينيات القرن الماضي «بيارد دودج» الذي عمل جاسوسًا لدى المخابرات الفرنسية واللبنانية، كتب تقارير وشت بالطالب أنطون سعاده الذي كان ينشئ «تنظيمًا سياسيًا سرّيًا خطيرًا». «إذا كانت أميركا تريد أن ترتاح في الشرق، فعليها التخلص من أنطون سعاده». وقد كشفت وثيقة دبلوماسية في أرشيف المخابرات الفرنسية، تحمل عنوان «اكتشاف منظّمة سياسيّة سرية» في لبنان، ومؤرّخة في 29 تشرين الثاني 1935. عن برقيّة أرسلها المندوب السامي الفرنسي في لبنان «دو مارتل» إلى وزير خارجيّة بلاده، مرفقة بتقرير رفعه مفتش عام المؤسسات الفرنسيّة، يَتحدّث فيه عن لقائه بدودج، وقول الأخير له: «لقد تبيّن لنا تورّط بعض الشبان في موضوع الحزب السوري القومي» (راجع صحيفة الأخبار مقالة الزميلة زينة حداد ـ 23 نيسان 2025).
وهناك الآن تيار قديم ومتجدد من خريجي الجامعة الأميركية في بيروت يقوم بأكبر عمليات التزوير عن حقائق سورية الطبيعية وله شبكة تتواصل مع ما تستطيع من مؤثرين على الرأي العام ومنهم رجال دين من كل الطوائف والمذاهب.
ولا يزال الضغط ساريًا لحل الحزب السوري القومي الاجتماعي، ولعلنا نتذكر كيف ذهب وفدًا لبنانيًا/ صهيونيًا إلى الرئيس الأميركي السابق «جورج دبليو بوش» طالبين منه أن يضغط على عواصم دمشق ولبنان والأردن لحل هذا الحزب «الخطير» الذي طالبت أبنة موشي دايان في لقاء معها في إذاعة «مونتي كارلو» بضرورة تعاون «إسرائيل» مع الدول العربية للقضاء على هذا الحزب الذي يشكل خطرًا علينا جميعًا.
***
كان سعاده حريصًا على الالتزام بالمعرفة العلمية والالتزام بنتائجها مهما يكن الثمن الأيديولوجي، معتبرًا أن هذا هو الطريق الأكيد لأي مجتمع يريد أن يكون فاعلًا، ويملك أدوات حاضره وزمام أمره ويبحث عن مستقبله.
هكذا خرج سعاده عن المألوف باستشهاده الجريء، وبأفكاره التّحرّريّة، التي أبت إلاّ أن تُعارك «الحقائق» الناقصة. لقد سرق لحظات حياته من الوجود، وراح «يُغازل» بياض الأوراق بمبادئه الخاصّة، وكتبَ أنَّ الشّرف السوري لا يُقاس بما يُغطّي أجسادنا من الأقمشة، ويدُكُّ جدار الزّمن بمعوله فيُسمع العالم الحُرّ صدى وهَول صرخته.
ها نحن اليوم، وبعد سبعة وسبعين عامًا، لا نزال نتوضّأ بغبار الرملة البيضاء التي عُجنت بدمائك الزكية.. وفي كل تموز نوقد شمعة عودتك الينا كأنك نسرًا في حومة السماء.. تراقب أعراس أبطالنا الذين ارتدوا الشهادة ثوبًا يتسابقون بحناء أوردتهم في هودج الإصرار.
ففي كل صبغة من ورقة ورد منتشيه على ضفاف الفراتين، بردى، نهر الأردن والليطاني، يوجد اسمك ممهوراً بالكبرياء الواسعة والفضفاضة وهي تدور مع نواعير حماه المغسولة بالعطور غير المعلن عنها.
نحن من دون فكرك ضائعون تائهون خائفون جائعون للنور بلهفة العيون المتسرّبة كخيوط العناكب من ثقوب الزمن الحافي.
اليوم تتساقط الألوان المتمنطقة بالوجوه الغائبة عن الكلام، فإذا بها تزهِر سواعد أبطال متأهّبة لصد غزوات العناصر الدخيلة على حديقة الزهور. فماذا علينا أن نفعل، يا زعيمي، حتى نعيد ألواننا وأصباغنا الى سابق بهائها من الحياة والحيوية
شكرًا لك يا سعاده، يا من أعطيت قيمة لكلمة الشكر وأنت تتوجه بها لقاتلك..
استشهد سعاده إذًا، وفي فمه شيء من الحب نحو القاتل، أو استشهد وهو يعرف أنّه يموت، ولكن أفكاره ستبقى خالدة.
***
لا يبدأ الاستشهاد من الشجاعة رغم أنه لا يكون إلا بها.
ولا ينتهي فقط إلى البطولة رغم أنه لا يكون إلا بممارستها.
بين الشجاعة والبطولة قرابة الوعي.
بين الشجاعة والوعي قرابة الثقافة.
بين الثقافة والوعي قرابة العقيدة.