مفاعل ديمونا النووي الأخطر في منطقتنا

في الوقت الذي ترتفع فيه حدة النقاش الدولي حول القوة النووية الإيرانية والضغط الأمريكي على إيران للحيلولة دون إقدامها على إنتاج اليورانيوم المخصب، لا تتجرأ المحافل الدولية إطلاقاً على التحدث أو الإشارة إلى ما يمتلكه الكيان الصهيوني من تكنولوجيا نووية متقدمة، علماً أنه أثيرت في العقد الأخير مسألة المخاطر البيئية والصحية لمفاعل ديمونا النووي على منطقة شمالي النقب وغربي الأردن وشبه جزيرة سيناء.

الكيان القائم على الكذب والتزوير وإخفاء الحقائق وقلبها، تكتم على مفاعل ديمونا النووي منذ إنشائه. في البداية، وللتمويه أسموه مصنع النسيج ثم اعترفوا بأنه مشروع بحثي لأغراض سلمية، وخدعت «إسرائيل» عشرات المراقبين الدوليين، لكن تبين أنه أضخم مشروع في منطقتنا.

بالغموض المتواصل ظل العدو يحتفظ بسر ترسانته النووية لأكثر من ستة عقود وهي سياسة انتهجها كل من حكم الكيان الصهيوني على مرّ العقود. وتندرج هذه السياسة تحت المصطلح العبري «عموميت»، أي «الغموض المتعمد» لسياسة الملف النووي. فبعد سنوات قليلة من احتلال العدو للأراضي الفلسطينية عام 1948 تأسست «هيئة الطاقة الذرية الإسرائيلية» عام 1952. ومنذ ذلك الوقت تعمل الهيئة النووية بشكل متسارع في استخراج اليورانيوم من صحراء النقب إذ تمكنت من تطوير طريقة لإنتاج الماء الثقيل الذي وفّر ل«إسرائيل» قدرتها الخاصة على إنتاج أحد العناصر المهمة في المجال النووي.

في أواخر سبتمبر/ أيلول عام 1957 وبعد خمس سنوات من المفاوضات مع فرنسا، وقّعت «إسرائيل» اتفاقية مع باريس تقضي بإنشاء مفاعل نووي في ديمونا من خلال الاستعانة بالعلماء الفرنسيين لأغراض ادعت «إسرائيل» حينها أنها سلمية. وعلى بعد نحو 90 كلم من القدس، ونحو 35 كلم من الحدود مع الأردن، وأبعد بقليل عن حدود مصر بنحو 65 كلم، تدفق المهندسون الفرنسيون لبناء «مركز شمعون بيريز للأبحاث النووية»، ومفاعل نووي ل«إسرائيل» ومحطة إعادة معالجة قادرة على فصل البلوتونيوم عن وقود المفاعل المستهلك، إذ كان أمر هذه المحطة أشد سرية من المفاعل نفسه إذ تعد الدليل الحقيقي على أن  البرنامج النووي «الإسرائيلي» كان يهدف إلى انتاج الأسلحة وليس لأغراض سلمية كما روجت تل أبيب.

في المقابل لم تكن أعين الاميركيين مغمضة عن التطورات في ديمونا إذ أصرت واشنطن في عهد الرئيس جون كنيدي على إرسال مفتشين أميركيين للتأكد من صحة المزاعم «الإسرائيلية» بأنه مفاعل لأغراض سلمية فقط. وللمفارقة وفي 25 حزيران الحالي 2025 قالت عضو الكونغرس الأميركي مارجوري تايلور غرين أن جون كينيدي «أغتيل» بسبب معارضته للبرنامج النووي «الإسرائيلي» في عام 1963. وبذلك مثّلت عملية اغتيال كنيدي في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1963 نقطة تحول هامة في موقف واشنطن تجاه المشروع النووي «الإسرائيلي». ومع تنصيب ليندون جونسون رئيساً للولايات المتحدة قرر البيت الأبيض عدم قول أي شيء عن برنامج «إسرائيل» النووي وعدم الضغط على تل أبيب للتوقيع على معاهدة حظر الانتشار النووي.

في الحقيقة حاولت «إسرائيل» إخفاء المشروع عن الولايات المتحدة، لكن تقريراً للاستخبارات الاميركية في عام 1963، رفعت عنه السرية عام 2017، كشف أن مفاعل ديمونا كان يعمل بأقصى طاقته، ويمكنه بذلك أن ينتج ما يكفي من البلوتونيوم لصنع سلاح أو سلاحين نووين سنوياً وهو ما زاد من إصرار الإدارة الاميركية وقتها على ضرورة إرسال بعثة لزيارة المفاعل النووي. وهذا ما حدث فعلاً بعد تنصيب ليفي أشكول رئيساً للوزراء في حزيران 1963 الذي وافق على السماح لعملاء أميركيين بإجراء زيارات منتظمة إلى مفاعل ديمونا النووي وصلت إلى ست عمليات تفتيشية أميركية سنوية بين عامي 1964 و1969. جاءت تلك الزيارات بعد رفض «إسرائيلي» لطلبات الوكالة الدولية للطاقة الذرية بزيارة مفتشين للمفاعل النووي وعوضت ذلك بفيزيائيين أميركيين دون السماح لهم باستخدام معداتهم الخاصة أو جمع العينات، بل وصل الأمر إلى منعهم من استكشاف أماكن سرية داخل مجمع المفاعل النووي من خلال بناء جدران زائفة حول صف المصاعد التي تنزل ستة مستويات إلى مصنع إعادة المعالجة تحت الأرض والذي عرف لاحقاً بالموقع «ماشون 2».

وبالتزامن مع هذه الزيارات التفتيشية رفض العدو توقيع معاهدة حظر الانتشار النووي التي أبرمت عام 1968. ومنذ ذلك الوقت بدأت الرواية الأميركية تأخذ منحى موازياً للرواية «الإسرائيلية» بشأن امتلاك دولة الاحتلال أسلحة نووية.

في سبتمبر/ ايلول عام 1979 بعد سنوات من هذا الاتفاق الأميركي ـ «الإسرائيلي» اكتشف قمر صناعي أميركي وميضاً مزدوجاً لاختبار سلاح نووي قبالة سواحل جنوب افريقيا. وبعد التحقيق في الحادثة، اكتشف أنها تجربة «إسرائيلية» نووية من بين ثلاث تجارب أخرى أجرتها «إسرائيل» بالتعاون مع جنوب أفريقيا، في حين تكتمت الولايات المتحدة كعادتها على هذه التجربة النووية في إطار الاتفاق مع الحكومات «الإسرائيلية» المتعاقبة.

مضت «إسرائيل» في بناء ترسانتها النووية في صمت ورعاية أميركية متعاقبة مع كل رئيس جديد إلى أن حصلت الفضيحة الكبرى في عام 1986، حين غادر مردخاي فعنونو الذي عمل كتقني فني في منشأة ديمونا النووية من سنة 1977 إلى 1985، إلى المملكة المتحدة حيث كشف لوسائل الإعلام معلومات تفصيلية عن البرنامج النووي «الإسرائيلي» تفيد أن المفاعل النووي «الإسرائيلي» تبلغ طاقته 26 ميغاوات ومن المحتمل أن «إسرائيل» طورت قدراته ليعمل بنحو 150 ميغاوات وتبلغ معدلات انتاج البلوتونيوم فيه نحو 40 كيلوغراماً سنوياً  وهو ما يكفي لصنع 10 قنابل. وبحسب فعنونو فإن مفاعل ديمونا طُور أكثر من مرة لزيادة قدرته الإنتاجية من مادة البلوتونيوم إذ كان يستطيع عام 1985 إنتاج 1.2 كلغ من البلوتونيوم أسبوعياً وهو ما يكفي لإنتاج 12 رأساً نووياً سنوياً، في حين تشير تقديرات حديثة إلى أن «إسرائيل» تمتلك بالحد الأدنى 80 رأساً حربياً نووياً وقد يصل الرقم في أقصاه إلى 200 رأس حربي نووي في الوقت الذي لا تزال تعمل فيه على تطوير منشأة ديمونا. وكشفت تقارير غربية عن تطوير «إسرائيل» ترسانة صواريخها النووية ليصبح صاروخها «أريحا 3» عابراً للقارات بمدى يصل إلى 5 آلاف كلم. وبذلك أصبحت «إسرائيل» واحدة من 9 دول في العالم تمتلك سلاحاً نووياً.

الجدير ذكره أنه بعد خمسة أيام على نشر معلومات فعنونو في مجلة صنداي تايمز البريطانية، قام جهاز الموساد بخطف مردخاي فعنونو من روما إلى «إسرائيل» وتم سجنه 18 سنة أمضى منها عشر سنوات في السجن الانفرادي.

اليوم ما زال مفاعل ديمونا يعمل رغم أنه في الأساس صمم للعمل لمدة 40 سنة لكن مرّ عليه حتى اليوم أكثر من 60 سنة. ومع تقادم الزمن كشفت اختبارات حديثة أن في المفاعل 1537 خلل داخل المفاعل نفسه. من ناحية أخرى تجدر الإشارة  إلى أن المجال الجوي فوق المنشأة مغلق أمام جميع الطائرات، والمنطقة المحيطة بها محاطة بسياج وتخضع لحراسة مشددة.

من الأهمية بمكان الإشارة حول تكلفة الإنشاء لمفاعل ديمونا، ما كتبه شمعون بيريز في مذكراته الصادرة عام 1995 أنه وجمعية بن غوريون تمكّنا من جمع 40 مليون دولار أمريكي من «أصدقاء إسرائيل حول العالم»، وهو ما يعادل نصف تكلفة المفاعل. وبناءً على ذلك، يمكن تقدير تكلفة الإنشاء بنحو 80 مليون دولار آنذاك، وهو ما يعادل قرابة مليار دولار بأسعار عام .2023

أخيراً لا يمكن إغفال الأضرار المادية والصحية التي قد تنتج عن أي حادث أو تسريب أو تفجير بمفاعل ديمونا، إذ من شأنه أن يصل حجم ودائرة الأضرار من النقب حتى تل أبيب، وهي منطقة يقطنها نحو 5 ملايين «إسرائيلي»، بالإضافة إلى الضفة الغربية. ومن شأن الإشعاعات أن تصل حتى مشارف قبرص والأردن كذلك. ومن ناحية أخرى، تدرس المحاكم «الإسرائيلية» أكثر من 45 دعوى قضائية رفعتها عائلات المهندسين والخبراء والفنيين العاملين في المفاعل النووي في ديمونا، بعد تفشي مرض السرطان بينهم في السنوات الأخيرة نتيجة تعرضهم للإشعاعات النووية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *