شهدت المنطقة خلال المواجهة الأخيرة بين إيران وإسرائيل وأميركا تطوراً لافتاً في موازين القوة، ليس فقط على صعيد المواجهة العسكرية، بل على مستوى الرسائل الاستراتيجية العميقة التي بعثتها إيران إلى خصومها الإقليميين والدوليين. فقد تمكّنت طهران، رغم الخسائر الكبيرة الناتجة عن الضربات الجوية الإسرائيلية، والضربة الأميركية الأخيرة، من إثبات قدرتها على الردّ السريع والفعّال باستخدام صواريخ باليستية متطوّرة وعالية السرعة، بعضها مزوّد بتقنيات توجيه بصري ومناورات خلال مرحلة إعادة الدخول (re ـ entry)، وهو ما أثار اهتمام المراقبين الدوليين وحتى بعض الحلفاء الغربيين «لإسرائيل».
تقديرات استخبارية: الضربات لم تحقق أهدافها الاستراتيجية
تشير التقديرات الاستخبارية الغربية إلى أن الضربات الإسرائيلية والأميركية الأخيرة قد أخّرت جزئياً برنامج إيران النووي، لكنها لم تتمكن من القضاء عليه أو منعه من مواصلة التقدّم. فإيران ما زالت تحتفظ بمخزون كبير من اليورانيوم المخصب بنسبة تفوق 60%، وهي نسبة تحتاج إلى درجة محدودة إضافية من التخصيب لبلوغ مستوى إنتاج القنبلة النووية. وعلى الرغم من إعلان طهران المتكرر أن استخدامها للتكنولوجيا النووية يقتصر على الأغراض السلمية وضمن موقف عقائدي يرفض التسلّح النووي، إلا أن هذه القدرات تبقى مصدر قلق دائم للغرب ولإسرائيل، لا سيّما في ظل غياب أي اتفاق نووي ملزم.
في هذا السياق، تبدو الأهداف التي أعلن عنها بنيامين نتنياهو مع انطلاق العمليات العسكرية ـ والمتمثلة في تدمير المشروع النووي الإيراني، والقضاء على قدرة إيران الصاروخية، أو ضرب مستودعاتها الاستراتيجية ـ أقرب إلى شعارات إعلامية فارغة لم تُترجم على أرض الواقع. بل إن طهران، رغم الضربات، أثبتت قدرة على الحفاظ على بنيتها الصاروخية واستئناف عمليات الإطلاق، وحتى استعراض نماذج جديدة، وسط حديث بعض المراقبين عن أن التدخل الأميركي بدا مسرحياً ومنضبطاً، يُراد منه ضبط الإيقاع دون الدخول في مواجهة شاملة، أكثر مما هو موجه لتحقيق نصر حاسم. كل ذلك يشير إلى إخفاق استراتيجي إسرائيلي، برغم ما تضمنه من دعم استخباراتي ولوجستي وتكنولوجي أميركي مباشر، ويطرح تساؤلات حول الجدوى والنتائج الحقيقية لهذه الجولة من التصعيد.
صمود غير متوقع
لقد تجاوز أداء إيران التوقعات التقليدية، ليس من حيث حجم الهجوم، بل من حيث نوعيته ودقة التوقيت والتقنيات المستخدمة. فبعد موجات أولى مكثفة من المسيّرات والصواريخ التقليدية، انتقلت إيران إلى استخدام صواريخ أكثر تطوراً كسجيل، و« خورمشهر » و«خيبر شكن»، و«قاسم بصير»، مصممة لاختراق الدفاعات الجوية المتطوّرة مثل «حيتس ـ 3» و«مقلاع داوود». ورغم أن معظم هذه الصواريخ تم اعتراضها بحسب الاعلام الاسرائيلي، إلا أنه من الواضح أن عدداً لا بأس به منها قد نجح في اختراق المنظومة الدفاعية الاسرائيلية والوصول إلى أهداف عسكرية أو استراتيجية، ما اعتُبر رسالة واضحة: أن إيران قادرة على الرد حتى تحت القصف والضغط.
هذه القدرة على التحمل والرد، رغم الخسائر، منحت إيران مكانة جديدة في الإقليم، وعززت من صورتها كقوة إقليمية صاعدة تمتلك أدوات الردع، وتسعى لتأكيد نفوذها عبر تحالفات وشراكات ممتدة من لبنان إلى اليمن.
تغيّر قواعد اللعبة الإقليمية
1 ـ . إعادة التقييم الخليجي
الدول الخليجية، وعلى رأسها السعودية والإمارات، باتت أمام معادلة جديدة: لا يمكن تجاهل إيران ولا يمكن مواجهتها عسكرياً من دون تكلفة باهظة. هذا قد يدفع نحو استئناف مسارات دبلوماسية، أو تعزيز التحالفات الدفاعية مع الغرب.
2 ـ تعزيز محور المقاومة
نجاح إيران النسبي في المواجهة سينعكس على حلفائها وشركائها في المنطقة: حزب الله، الحوثيون، والفصائل العراقية. من المرجّح أن تستمدّ هذه الجماعات مزيداً من الجرأة والتحرك، في ظل شعورها بأن طهران أصبحت أكثر صلابة واستعداداً.
3 ـ مكاسب في «القوة الناعمة»
أمام الرأي العام العربي والإسلامي، باتت إيران تُقدَّم على أنها الطرف الذي تحدّى إسرائيل وأميركا معاً ونَجَا، ما يعزز من حضورها كقوة مقاومة غير كلاسيكية، تقنّياً وعقائدياً.
واشنطن بين الاحتواء والمراجعة
من جهة الولايات المتحدة، فإن صمود إيران يطرح تحديات معقّدة:
1 ـ انكشاف محدودية الردع
رغم العقوبات والتكنولوجيا والضغوط السياسية، لم تنجح واشنطن في تحييد إيران أو كسر إرادتها الاستراتيجية. فإيران اليوم أكثر حضوراً في العراق وسوريا ولبنان واليمن، والضغوط التقليدية لم تؤتِ ثمارها المرجوّة.
2. ـ تعقيد الحسابات العسكرية
أي تصعيد ضد إيران أصبح يحمل مخاطر أكبر، خاصة مع وجود آلاف الجنود الأميركيين في قواعد داخل نطاق الصواريخ الإيرانية. الخيار العسكري لم يعد مضمون النتائج.
3 ـ تآكل الجدوى من الاتفاق النووي
بات من الواضح أن إيران لن تعود بسهولة إلى اتفاق شبيه بـ «الاتفاق النووي 2015» دون اعتراف بدورها الإقليمي ونفوذها الصاروخي. وبالمقابل، يصعب على الإدارة الأميركية تبرير تقديم تنازلات لإيران أمام الكونغرس والرأي العام.
هل يمكن الوصول إلى صفقة إقليمية أميركية ـ إيرانية؟
رغم كل العقبات، يلوح في الأفق خيار استراتيجي قابل للنقاش: صفقة توزيع نفوذ إقليمي ضمن معادلة براغماتية. تقوم هذه الصفقة المحتملة على الاعتراف الضمني بدور إيران مقابل التزامها بكبح تصعيدها ودعمها للفصائل المسلحة، وتثبيت توازنات لا تؤدي إلى انفجار شامل.
في العراق، قد توافق واشنطن على تقليص وجودها العسكري المباشر، مقابل التزام إيران بكبح جماح الميليشيات وتخفيف تدخلها في القرار السياسي العراقي.
أما في لبنان، فقد يشمل التفاهم اعترافاً أميركياً غير معلن بالدور السياسي لحزب الله، في مقابل التزام إيران بوقف التسلّح النوعي للحزب وتجميد أي تصعيد ميداني.
في اليمن، يمكن للولايات المتحدة أن تدفع نحو فتح المجال السياسي أمام الحوثيين ضمن حل تفاوضي، على أن تلتزم إيران بضمان أمن الملاحة في البحر الأحمر وباب المندب.
وفي سوريا، قد يتم القبول بتقسيم نفوذ واقعي بين القوى الكبرى، شرط أن تقلّص إيران من انتشار الحرس الثوري وأن تُبقي دورها ضمن حدود واضحة.
على مستوى الملف النووي، قد تعرض واشنطن تخفيف العقوبات الاقتصادية تدريجياً، مقابل عودة إيران إلى ضبط تخصيب اليورانيوم وقبول آليات رقابة شفافة.
أما فيما يخص أمن الخليج، فقد تقوم الولايات المتحدة بضمان سياسة عدم الاعتداء أو الاستفزاز، في مقابل تعهد إيران بضبط مدى صواريخها والتنسيق البحري لتفادي الاشتباكات.
هذه المقايضات المحتملة تشكل الأساس لأي صفقة إقليمية توازن بين المصالح الاستراتيجية للطرفين وتفتح الباب أمام مرحلة جديدة من الاستقرار النسبي في الشرق الأوسط.
غير أن هذا السيناريو يتطلب قيادة سياسية جريئة من الطرفين، وتفهّم من الحلفاء الإقليميين لأميركا، خصوصاً إسرائيل والسعودية.
سيناريوهات بديلة عن الصفقة
في حال فشل التوصّل إلى تسوية شاملة أو حتى محدودة بين إيران والولايات المتحدة، فإن المنطقة ستدخل مرحلة جديدة من الغموض والتقلبات، تحكمها توازنات هشّة وسيناريوهات بديلة، تتراوح بين التصعيد المدروس والانفجار الشامل.
أول هذه السيناريوهات هو التصعيد المتدرّج أو المستمر، حيث تواصل طهران وخصومها استخدام أدوات الحرب غير التقليدية، كالهجمات السيبرانية، وعمليات التخريب، وضربات عبر الوكلاء، سواء في الشام أو العراق أو البحر الأحمر. هذا النمط من المواجهة يهدف إلى استنزاف الخصم دون الوصول إلى حرب شاملة، لكنه يحمل في طياته خطر الانفلات في حال وقعت ضربة خاطئة أو سُجل مقتل شخصية مفصلية، ما قد يشعل المنطقة بأسرها.
أما السيناريو الثاني، فيقوم على الردع المتبادل غير الرسمي، حيث تدرك كل من إيران والولايات المتحدة (ومعهما إسرائيل والخليج) أن التصعيد المباشر مكلف للغاية، ما يدفع نحو سياسة «إدارة التوتر» بدل حلّه. في هذا الإطار، يُسمح لإيران بمواصلة نفوذها الإقليمي ضمن حدود مقبولة، فيما تستمر واشنطن بالضغط الاقتصادي والدبلوماسي دون الذهاب إلى المواجهة العسكرية. هذا السيناريو يُبقي المنطقة في حالة استقرار هش، لكنه يمنح طهران فرصة تعزيز مكانتها الاستراتيجية ببطء.
أما السيناريو الثالث، وهو الانفجار الإقليمي المفتوح، فيبقى الأكثر خطورة، ويُحتمل أن يقع في حال حدوث تحوّل جذري أو عملية صادمة، ما قد يدفع إيران إلى الرد الواسع واستهداف القواعد الأميركية وحلفائها. في هذا السيناريو، تدخل المنطقة في دوامة حرب مفتوحة تشمل لبنان وغزة واليمن والعراق، وتؤثر بشكل مباشر على أمن الطاقة والتجارة العالمية، وتستدعي تدخلات دولية عاجلة لاحتواء الكارثة.
إن استبعاد هذا السيناريو في المدى القريب لا يعني الاطمئنان، بل يدفع نحو ترجيح استمرار نمط «لعبة حافة الهاوية»، التي يتقنها الطرفان، حيث تُستخدم أوراق القوة بتوازن دقيق يمنع الانفجار، لكنه لا يضمن الاستقرار المستدام. ومع تعقّد المشهد الدولي وتراجع الهيمنة الأميركية الأحادية، فإن إدارة هذا التوتر المزمن قد تصبح النموذج السائد في الشرق الأوسط خلال المرحلة المقبلة.
بين توازن الرعب وإمكانية الصفقة الكبرى
تدخل المنطقة مرحلة جديدة تتأرجح بين خيارين متناقضين: إما استمرار توازن الرعب القائم على الردع المتبادل وتبادل الرسائل المحسوبة عبر الجبهات المختلفة، دون الانزلاق إلى مواجهة شاملة؛ أو التمهيد لصفقة تاريخية غير معلنة، تُعاد فيها صياغة النفوذ الإقليمي وتوزيع الأدوار بين القوى الكبرى وفق معطيات القوة الجديدة التي فرضتها المواجهة الأخيرة.
لقد شكّل الصمود الإيراني في وجه الضربات الإسرائيلية والأميركية تحولاً نوعياً في معادلة الردع، ليس من حيث الانتصار العسكري، بل من حيث إثبات القدرة على البقاء والمناورة والرد، رغم التفوق التكنولوجي والجوي للطرف الآخر. هذا الصمود لم يمرّ دون أثر، بل أجبر واشنطن وحلفاءها وحتى خصومها على إعادة النظر في جدوى السياسات السابقة التي اعتمدت على الحصار والعقوبات والردع الأحادي.
غير أن استمرار هذه المعادلة قد يدفع الولايات المتحدة إلى تفعيل أدواتها التقليدية الأخرى، عبر سياسات تقويض الأنظمة من الداخل، كما فعلت في تجارب سابقة في العراق والشام، من خلال خلق ضغوط اقتصادية ـ اجتماعية، دعم حركات احتجاجية، وتعزيز الانقسامات الداخلية. فالرهان الأميركي طويل الأمد لا يكتفي باحتواء النفوذ الإيراني خارجياً، بل يهدف إلى تفكيك البنية الصلبة للنظام الإيراني من الداخل متى سنحت الفرصة.
في المقابل، وعلى جانب العدو الإسرائيلي، من غير المستبعد أن يلجأ رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، بعد انتهاء الحرب على إيران دون تحقيق نصر حاسم، إلى توجيه عدوانه نحو حلفاء طهران الإقليميين، خاصة في لبنان أو اليمن، في محاولة لتعويض إخفاق استراتيجي عبر ضربات «انتقامية» تحمل طابعاً سياسياً وإعلامياً. وهذا قد يفتح الباب على جولات تصعيدية جديدة في الساحات الهشة، مع ما يحمله ذلك من أخطار على الاستقرار الهش أصلاً.
وإذا كانت الصفقة الكبرى ما تزال بعيدة المنال، فإن نمط «إدارة التوترات» عبر القنوات الخلفية، والقبول الضمني بتوازن النفوذ، قد يتحول إلى الواقع العملي للمرحلة المقبلة، خاصة في ظل تعقيدات النظام الدولي، وتآكل الهيمنة الأميركية الأحادية، وعودة منطق التعددية القطبية في إدارة الصراعات.
هكذا، قد لا يكون السلام الكامل وشيكاً، لكن الحرب الشاملة أيضاً ليست الخيار الأقرب. وبين هذين الخيارين، تُرسم ملامح شرق أوسط جديد، تُدار فيه القوة بقدر من الحذر، وتُعاد فيه صياغة مفاهيم النفوذ والمواجهة، وسط تنافس دولي حاد، وصعود استراتيجيات التفكيك والتطويق بدلاً من الغزو المباشر.