لا يقبل العقل المعاصر، أن تتكون الناس من نوعين من البشر، نوع يحمل السلاح، ونوع يخضع له، ومن أجل هذا الرفض تحديداً، وجدت الثورات السلمي منها والمسلح، من أجل تعديل ميزان القوى لصالح النوعين معاً، لأسباب سامية أرقى بكثير من درجة تحضر القاسر والمقسور، وذلك بتفعيل القدرة الإدراكية للتفكير في مصير الناس مجتمعين، عبر إخضاع مفهوم القسر للعملية الإدراكية، المسماة «عقلاً»، التي تفترض مبدئياً، أن لكل سؤال جواب، ولكن الميزة المميزة للعملية الإدراكية، أن تفرق بين الجواب الصحيح والجواب الخاطئ، وعلى هذا على الناس جميعاً تحمل مسؤولية الخطأ والصواب، بغض النظر عن المسافة التي تفصلهم عن المطبخ الإدراكي المسمى عقلاً، فالناس بالعموم تتحمل مسؤولية نتائج الخطأ، في التفكير بإنتاج الكهرباء (مثالاً تبسيطياً)، وعليها تصحيح هذا الخطأ، بالابتعاد عن تكراره، والابتعاد عن العناصر المؤسِسة له، وهذا بحد ذاته بحاجة ملحة إلى استخدام الطاقة الإدراكية، لتحويل المسؤولية إلى فعل يخدم مصالح هؤلاء الناس، فالمسلح والأعزل منهم متضرر من فقدان الكهرباء، والصمت عن هذا التضرر (وأي تضرر مصلحي)، يجعل من هؤلاء الناس كتلة غير ذات جدوى.
أحد تعريفات الدولة، ( وهنا المقصود «الدولة» وليس السلطة، وليست الحكومة) هو «حضور العقل في الاجتماع البشري»، هذا الحضور هو تفعيل وتشغيل الطاقة الإدراكية في إيجاد الحلول الصحيحة، لمواجهات الناس مع العصر، الذي يتمثل باحتياجات ضاغطة، في وسط دنيوي منافس على المصالح، وهنا يبدو العقل هو الحامي والحارس على مصالح الناس، تاركاً مسائل إثبات صحة حلوله للنتائج، التي لا يمكن تغطيتها لا بالسلاح، ولا بالبروباغندا، ولا بالثوابت الأيديولوجية، فالعقل هو أحد أطراف مثلث الحياة، المتمثل في إضافة الجسد والبيئة إليه، كي يكتمل الفعل الإنساني الساعي إلى التحضر على هذه الكرة الأرضية، في الزمن المضارع الحالي والمستقبلي.
عادة ما يقسر القسم المسلح من الناس، الناس على تفكيك هذا المثلث، وبعثرته، بما يعني تفريغ العقل من محتواه، أو صرفه من الحضور في جنبات الأداء الحياتي لهؤلاء الناس، مما يبدد أسباب وعناصر واستحقاقات وجود «الدولة»، في هذه الحال يصير وجود الدولة هراءً، بغض النظر عن النوايا، وكذلك عن الدعاية والإعلام الذي يدعي وجودها، ففي هذه الحال تبقى الناس كما هي عليه ، «ناس مسلحة قادرة على القتل» و «ناس عزل قادرة على تحمل شتى أصناف الموات»، لتعود الثورات، أو المنافسات البينية بين البلدان، إلى التصفير في أذان الناس، للتحرك في مطالبة لإعادة العقل للتداول، وفي كلا الحالين سوف تقبض «السلطة» على هذا المطلب، بحجة المؤقت، والتفاؤل وإعطاء الفرصة، حتى يستتب لها الأمر، على الرغم من وجود كل المقدمات لكل النتائج المعاشة سابقاً، إلا أن تفريغ العقل من محتواه يفعل فعله، في تعطيل الوصول إلى دولة.
وهنا نقف على ظاهرة مؤسِسة للعطالة الدولية (وبالتالي الحكومية)، وهي ظاهرة الإختفاء الثقافي، المعبرة عن السلوك المعرفي للناس، فالمنتجات الثقافية (الدولة واحدة منها) ما هي رأس جبل الجليد، المعبر عن قيمة القدرة الإدراكية لهؤلاء الناس (حاكم ومحكوم)، وإخضاع القدرة الإدراكية لإلزامات غير مصلحية، يعني تماماً التملص من مهمة إدارة مصالحهم، إلا بشروط ابتزازية، تستطيع أن تقلب مطالب الناس إلى عكسها بحجة ضرورات ثوابتية، كالسيادة، وتأمين الغلبة والهيبة، وما يتبعها من عادات وتقاليد وأعراف، بحيث تتحول الساحة من الزمن الحاضر إلى الزمن الماضي بشروطه المعرفية، و كذلك بسلوكه المعرفي الإجتراري، ما يغيّر سيرورة الحياة، إلى سيرورة نكوصية، تتمثل بتكرار النماذج المعرفية، والأخطر هو تكرار المباحث المعرفية الماضية وتضخيمها إلى درجة التغطية على العقل ومفاعيله واستحقاقاته، فتدخل الناس في مماحكات تتسبب بها تلك المنتوجات المزيفة لعقل ما زال يريد تجربة المجرب، في محاولة محكومة بالفشل للحاق بنماذج ثقافية معلنة ومعروفة، مما يجعل المنظر، كم يضع ساقيه في قاربين ويريد أن يبحر بلا شراع أو مجذاف.
حضور العقل في الاجتماع البشري، هو سلوك معرفي، يعبر عن المعنى، وخارج المعنى المقاس والمعاير والمنسوب إلى تجارب أخرى، يصبح التحضر غاية وهمية، لا تستطيع تحملها (عقلاً) بنية اجتماعية معاقة بالتجارب السابقة بغض النظر إذا كانت فاشلة تدعو إلى النكران، أو ناجحة تدعو إلى الفخر، فالمجتمع الحقيقي (إذا تم تأسيسه) هو في صراع درامي دائم على الارتقاء من أجل تحقيق المصالح، واختفاء العقل، سواء بالتأطير الإيديولوجي، أو بالتبسيطية المخلة، يجعل من الخوف أداة سياسية، تفيد في صناعة الجرائم، في عودة غير حميدة، إلى تقسيم الناس بين مسلح وأعزل.