من غورو إلى براك والخرائط

عندما رجع غورو إلى لبنان مندوباً سامياً، خلفاً ل جورج بيكو، شريك البريطاني سايكس، في الاتفاقية التي رسمت خريطة بلاد الشام فيما بينهما، عاد راغباً بتوحيد لبنان وسوريا لكن على غير اهداف الوحدة الحقيقية التي قال عنها كل نهضويي ذلك الزمن، هذا ما قاله سعاده نفسه في مقالة كتبها في مرحلة العشرينات وقبل تأسيسه الحزب، مستهجناً تطبيل البطرك حويك له آنذاك، وكذلك التظاهرات والاستقبالات التي أقامها له لبنانيون وسوريون، وارسلوا  له  الوفود المرحبة  والمهللة، وكأنه يقوم بعمل جلل للبنان وسوريا وفيما هو يخدم دولته فرنسا التي لها وحدها حق الافتخار، كما قال. فمقاصده كانت الحفاظ على الميزانيات المالية بين البلدين في يد فرنسا، وكذلك تقرير العلاقات التجارية مع الحكومات المجاورة. ولم يكن القصد منها ابداً وحدة تجمع قدرات الكيانين لا الروحية ولا المادية، وكان ابلغ دليل على ذلك موقعة ميسلون وما تعرضت له دمشق وجيشها يومذاك عدا الحركات الاعتراضية العديدة التي طالت الفرنسيين المنتدبين في كلا الكيانين.

كم يشبه الامس اليوم، فيما يطرحه المندوب السامي الأميركي توماس براك، من طروحات غورو بالأمس!!حيث يحاول الأميركي الزاعم اصلاً لبنانياً، ان يهددنا بخرائط جديدة ترسم للمنطقة بعد قرن من الزمن.

لا شك ان الخرائط الجديدة التي يجري الحديث عنها، هي الشرق الأوسط الجديد الذي تعمل على احيائه ومنذ شيمون بيريز دولة الكيان الإسرائيلي وراعيتها واشنطن الداعمة الأكبر مع دول الناتو. وذلك يقصد الهيمنة على بلاد الشام او سوريا او منطقة غربي آسيا، التي تتميز بأنها وسط العالم الذي يمسك بخطوط التجارة العالمية وايضاً بأنه كنز الثروات المدفونة من نفط وغاز ومياه، والتقاسم جار

ان مقاصد المبعوث الأميركي عن الوحدة لا يجب ان تكون بعيدة عن ادراك اللبنانيين، انها تهديد وتهويل لما هو اعظم بحال لم يستسلم اللبنانيون ويسلموا سلاحهم، وهكذا يكون مصير لبنان «واقلياته»، كما يحب زاعمي حمايته تسميتهم، مصير السويداء التي قصد منها ان تكون نموذجاً لترهيب من لا يخضع، وسط أجواء تقاسم النفوذ الإسرائيلي والتركي المستمر من ناحية الدولة السورية، منذ ان تمت الإطاحة بالنظام السابق وتم ترتيب واقع سوري جديد له استهدافاته في لعبة أمم كبرى، لم تستطع اخفاءها بزة الشرع الانيقة، مستبدلا بها رداء الجولاني السابق.

لم يكن ما حصل في السويداء ولا في الساحل السوري، مجرد ردود فعل على فلول او بناء على ارتباط قوى بالنظام السابق او دعاة اهداف انقسامية وحسب، بل هو تنفيذ لأهداف المشروع المعدّ للنظام الجديد ورئيسه، الذي بات يحظى بإعجاب ترامب شخصياً ولأجله رفعت العقوبات وأطلقت الوعود لسوريا الجديدة

انه بداية تحضير للأرضية المقبلة من وعود بالتطبيع وبحلول السلام في المنطقة، وما الفوضى النارية التي مورست على دمشق من قبل جيش العدو، بالأمس، الا لإعادة ترسيم الخطوط التفصيلية بعد ما ظهر من سوء استيعاب للاتفاق الآخذ في التبلور بدءا من باكو أذربيجان، اذ يبدو ان دمشق اخطأت باستعمال فائض القوة، فتخطت خطوطاً حمراء رسمها «الإسرائيلي » لجنوبي سوريا، مما دفع العدو للتدخل برسائله التي يتقنها.

 من «سوريا» إلى لبنان والخشية من انعكاس ما حصل على باقي الخريطة الملتهبة ولبنان في الطليعة، وها هي سلطة الترويكا اللبنانية، تصيغ اجوبتها بترو وتأن كما تقول، فيما يترقب اللبنانيون الأجوبة متمنين الاتعاظ من تجارب الآخرين، بعدما خبروا الكيان وغدره جيداً.

اذ يدرك اللبنانيون ان ما تزعمه واشنطن عن زلات لسان المبعوثين، ما هو إلا أساليب متقنة من الخداع الأميركي. يقول لسان حالهم، حذاري جعل قوة لبنان وسلاحه امر يمكن التنازل عنه في أجواء فائض السلطة التي يعيشها نتنياهو وسط تخبطه في جبهاته المفتوحة واشكالياته الداخلية.

وإذا كان اعتقاد العدو ان اللعب بالورقة «الدرزية» يكسبه داخلياً ويعزز من قدراته التوسعية على جبهاته الشمالية، من خلال دغدغة شعور الحماية لدى البعض، ليعبر منها إلى استكمال خريطته نحو الفرات، حري بهذا البعض من اللبنانيين ان يرى في الامر دعوة للحذر، لأنه سيؤدي إلى مزيد من الغرق بدم حروب تقسيمية معدة سلفاً مع الخرائط، فلا خيار إلا بالحفاظ على نقاط القوة، بوحدة الموقف ووحدة الوعي ووحدة الخيار، فإلى مزيد من التماسك والحذر لنحفظ بلادنا .