«عقلك برأسك اثنين بديروك»، كم من مرة سمعنا هذه الجملة عن مدى غباء الإنسان حتى ولو كان يتمتع بكل ملكاته العقلية!
وكم سمعنا أيضا عن شخصية «المفتن» الذي يطلق عليه في التعبير الشعبي «الحرّار الضرّار» أو «الحرّ زرّ» أو «قبار الصحاب» وأنا أفضل أن أطلق عليه باختصار لقب الشيطان، وهو كناية عن «خرّاب البيوت» الذي يلقي الخصام والعداوة بين الإخوة وأفراد البيت الواحد ويزرع بذور الشقاق بين أبناء قرية بكاملها كانت مشهورة بتكاتف أبنائها ومحبتهم لبعضهم البعض، ومع ذلك تقاتلوا واختصموا على تفاهات.
المفتن المؤذي هو شخص في الحقيقة مهمته التلاعب بعقول الناس ويسيطر عليها مهما كان هؤلاء الناس أذكياء وعقلانيين والبعض يعتبر أن هذا النوع من أصحاب الفتن يمتلك قوة سحرية مغناطيسية شيطانية يستطيع من خلالها تنويم الناس بواسطة سحر غريب أو قدرات ماورائية بارا سيكولوجية، من أجل السيطرة عليهم كما كان يفعل قديما المدعو «سليم العشي» والمشهور بلقب «داهش» وقد برع في إيهام الناس بالصوت والصورة بواسطة خزعبلات وألاعيب ذهنية غريبة عجيبة.
هناك أيضا أشخاص يتمتعون بلسان جهنمي ومقدرات فائقة على الإقناع خاصة إذا كان الطّرف المقابل لهم غبيا و«جسمه لبيس» فينقض صاحب اللسان العسلي على فريسته ويفعل بها ما يشاء كونه أستاذا ماهرا ويجيد تماما كيفية استدراج الآخرين والنيل منهم كما الصياد الذي يستدرج فريسته.
ومن بين هؤلاء الذين يجيدون موهبة الإيحاء والسيطرة من كانوا مسكونين فعلا بروح شريرة نجسة الذين يقودون ضعفاء النفوس والأغبياء الى حتوفهم متسببين بالفتن وتوريط الناس في مآزق كبيرة تبدأ بالخسارة المالية ولا تنتهي مع خسارة الروح!
وصل ذات يوم إلى قرية لبنانية مرتفعة جدا عن سطح البحر، رجل داهية وقد رضع الأذى مع الحليب وقلبه أسود حالك كقلب مجرم كافر لا يردعه شيء ولا يتوانى عن سوق الناس الى حتوفهم. وكانت هذه الضيعة في أيام الصيف تشهد ظاهرة الضباب الكثيف المعروف باسم «الغطيطة» وسببه اشتداد الحرارة على الساحل فتتبخر مياه البحر وتشكّل ضبابا كثيفا يلفّ القرية وجوارها ويحجب الرؤية بشكل كامل.
ذات يوم مشؤوم في عزّ الصيف، قام هذا الرجل الشرير وأقنع مجموعة من الفتيان الأغبياء بمرافقته والصعود الى قمة جبل مرتفع يقع في طرف الضيعة حتى يتسلقوه الى منتصفه، فيصبحون فوق مستوى الضباب وأخذ يخبرهم أن الضباب هو في الوقع مثل البحر مليء بالأسماك التي انتقلت مع التبخر من مياه البحر وفي حال قفزوا وسطه سوف يظفرون بأعداد هائلة من الأسماك، فاقتنع هؤلاء المساكين السذج ورافقوه.
عندما وصلوا الى وسط الجبل توقفوا في مكان يشبه الشرفة يطل على الوادي الذي بات مزنرا بالضباب الذي حجب رؤية الوادي السحيق.
طلب الرجل من الفتيان القفز في هذا البحر المزعوم لالتقاط السمك.
قفز الأول الى الوادي فشجّ رأسه واخذ يصرخ:
آخ يا راسي، سمعه رفاقه وأخذوا يتساءلون: ماذا قال؟ ماذا قال؟ أجابهم الرجل صاحب الفتن:
عم بيقول السمك عاصي.
وعند إشارته قفز الفتى الثاني ويبدو أنه هبط على صخرة وكسر ذراعه وأخذ يصرخ قائلا:
آخ يا إيدي آخ يا إيدي فقال الرجل المحتال للأولاد الآخرين:
عم بيقول السمك جربيدي …
ثم قفز الثالث ويبدو أنه كسر ظهره على صخرة مدببة فأخذ يصرخ: آخ يا ظهري آخ يا ظهري … وكان الفتيان بالكاد يسمعون تأوهات صديقهم ويتسألون عمّا يقوله، فقال الرجل المفتن لرفاق الفتى الباقين:
الهيئة عم يقول السمك نهري، السمك نهري!
ثم قفز الرابع فهبط على بطنه فتألم ألما شديدا فأخذ يصرخ:
آخ يا بطني آخ يا بطني!!
فقال الرجل للرفاق: عم يقول السمك عبطني، يبدو أن السمك عبطه من شدّة وفرته وشجع الخامس فقفز بدوره، وشرخ كتفه فأخذ يصرخ ويزعق: آخ يا كتفي آخ يا كتفي!!
فقال الرجل المحتال للصبية: الهيئة عم يقول السمك كثير مش نتفي، كتير مش نتفة.
ثم قفز السادس فإذا به يفلق صدره على صخرة مدبّبة هو الآخر وأخذ يصرخ:
آخ يا صدري آخ يا صدري فقال الرجل للأولاد عم بيقول:
السمك لقز صخري لقز صخري وظلّ يحثّهم هكذا واحدا إثر الآخر حتى سقطوا جميعا في الوادي وأخذوا يصرخون طلبا للنجدة و بعد الصراخ أخذوا يئنّون بأصوات واهنة وبالكاد يستغيثون وما من مجيب ولا مغيث، حتى لفظوا أنفاسهم.
عاد الرجل المفتري، صاحب الفتن الشيطان الدسّاس القاتل الوسواس الخنّاس أدراجه وهو يسخر من غباء هؤلاء الفتيان ويضحك عليهم بعد أن شفى غليله المريض من أرواحهم البريئة وتركهم يواجهون الموت بعد أن قصف أعمارهم الفتية ونفذ بهم مجزرة وحشية لا مثيل لها في العنف والمخططات الشيطانية.
هذا ما يحصل تقريبا في كل أنحاء العالم حيث قوى الظلام تخدع الأبرياء السذج وتصوّر لهم الأحلام الزهرية والرخاء والتقدم والديمقراطية والازدهار الاقتصادي، ولكنها في الحقيقة لا تفعل سوى أنها تحفر لهم قبورهم وبدل أن يأكلوا السمك تأكلهم المنايا !!