كانت فاتن المر رأت في «الخطايا الشائعة» (دار النهار 2010) أرضاً محروقة تعبث بها الرياح، فلجأت إلى الكلمات، لكنها تحذرت من أن تغدو الوريقات مقبرة لكل ما آمنت به، وأصرت في روايتها «حدثيني عن الخيام» (دار الآداب 2015) على أنه، في أجواء القصف، لا تبدو العودة إلى الحياة الطبيعية أمراً يمكن أن يتحقق (ص.9)، لذلك من المفيد اللجوء إلى الكتابة القصصية التي تحرّر وتخلق الجميل وتنقذ من اليأس (ص.10). وهي لم تبدل رؤيتها أو موقفها في «إرث بيريت» (أيار 2025) حيث عالم غلبه التوحش، فاستعانت شخصيتها الرئيسية بجدتها وبحكاياتها، وهي راوية صاحبة سلطة (ص 67) فتماهت الشخصيتان لتنتشل دنيا ذاتها من الأرض المحروقة ومن حال التوحش.
واستمر فعل إيمانها بالحكاية كونها تتخطى النسيان وتتجدد وتطرح الأسئلة كي تكون لنا نظرتنا إلى الحياة والوجود، بخاصة في زمان التكنولوجيا التي تفرض علينا حكاياتها عندما لا نملك نحن حكايتنا (ص. 95). وفي هذا المقام، إن تداول الحكايات، عبر روايات المر، هدفه إعداد شروق جديد، لإنسان جديد، في مجتمع يقاوم الوحش كما قاومه البطل القديس جاورجيوس، وبناءً عليه، أرادت الكاتبة منع الذاكرة من الذوبان ورد القلق وردع الشر بنبضها الثقافي من خلال الحكاية التي لا تنتهي بموت جدة الراوية، بل تستمر حرة، وتحمل طاقة على صنع الحياة، بشكل آخر.
ومعنى ما أقول أن ما استعارت من مقاطع شعرية، ومن محطات تاريخية، ومن حوادث تجري الآن في شرقنا، ونحن شهود، وما بذلت من جهد كي تحيي الماضي وتستخلص منه وتستخلص منه العبر وتسير إلى الحاضر ومآسيه، كل ذلك رمى إلى التركيز في الإيمان بالفن وبالخير، كي لا يبتلعنا العدم (ص. 102). وما اختزلت جدتها من أساطير وتحولات وملاحم وقصص إنما لتعلمها أن تمضي فوق الخيانة والكذب والفساد، فلا يعلق غبارها بحذائها (ص.115)، وأن تقبل الاختلاف وتحب الغرابة وأن تحافظ على العقد ذي الأحجار الزرق، وهو رمز هذه العلاقة الكيانية المتواصلة المتوارثة التي تتحدى الشر وتجابه الخطر وأن تثبته على الأمر الآتي وعلى الخير.
ولا يمكن إلا أن نتوقف عند سؤالين طرحتهما الراوية في نص زلزال بيروت: لِمَ لم يمدّ لهم ربهم يد المساعدة فلا يرحلوا؟ أين اختبأ؟ أين ذهب كل القديسين الذين طالما أقمنا لهم الصلوات؟ استفهام لاهوتي بامتياز يحاول أن يفهم من المسؤول عن الشر في الطبيعة وفي العالم وبين البشر، أهو الخالق أم المخلوق؟ أم نظام يعرف ما لا نعرفه نحن؟ بدت الروائية في حيرة، كي لا أقول متشائمة، فبطلاتها صلّين، لكن الصلاة لم تصل إلى أذن الله، أو ارتطمت بسقف صلب حال بينها وبين السماء، أو لم تنقذ عائلة مؤمنة من بطش جمال باشا، أو تعرض عدد من المؤمنين لكارثة وغاب عنهم إلههم في ذروة صلاتهم. المهم أن من حق العقل طرح أسئلة قد تبقى من دون جواب. علماً أن الجدة أكدت أن «حتى الأسئلة التي تبقى معلقة تجد جواباً.» (ص. 11) على أن من يتلقى الإجابة في هذا السياق هم عشاق الأبد وحدهم.
أما السؤال الثاني فهو: «ما معنى أن تبقى وحيداً في مواجهة مارد جبار لا يرتدع؟» وفي ظني أن القائلة: «إن الموت يصغر في عين من لا يخافه»، و«صانعو الأساطير لا يهابون الموت متى كان طريقاً لحياة أفضل.» لا تهرب من المسؤولية، ولا تعاني تشظياً نفسياً وفكرياً، بل تحث على أن تكون المعركة جماعية لا قيمة لطاقة الفرد فيها إلا بقدر ما ينتمي إلى متحد وينصهر فيه ويتكامل معه. وهي تبرز في شخصية فريدة، مقاوم يقوم جمال باشا بشنقه، وقد كان بإمكانه أن يصعّد في باريس مقاومته الثقافية إلى جانب متنورين من لبنان والشام والعراق وفلسطين، لكنه شاء أن يجوع مع الجائعين في بلاده، وأن يحمي أهله من الجراد والاستبداد والظلم.
يقول نيتشه في كتابه «العلم المرح»:
«أرى من جهتي أن البشر منذ كانوا، ومعهم تزامناً عالم الحيوان، ومعظم الزمان الأولي، في ظل البدايات، يوم افتتحت الحياة، وشرع الماضي يتفتح، أنها كلها تدوم حية فيّ، تكتب، تحب، تكره، تستخلص العبر. لقد تنبهت لكل ذلك، وأنا مندهش وسط حلم، ونظرت إلى أهمية ما أحلم به، وإلى إلحاحية إبقاء هذا الحلم مستمراً كي لا أزول.»
نحن في «إرث بيريت» قمنا مع الكاتبة برحلة عبر تاريخنا واطلعنا على ما فيه من إرث ثقافي ومادي، ورأينا كيف أحيت بسحرها الفنيّ والفكري الماضي وشحنته بروح الحياة وبدينامية الحاضر، ولو كانت مؤلمة، واستمدت منه ما هو قابل لاستخلاص الحكم والنعم والمعاني والقيم. ونحن في حديقتها نتأمل ونعرف ونحلم ونتجدد ونخرج من قشورنا ومن الليل فينا، إلى نورنا، وإلى قبول التحولات البناءة وإن اضطررنا إلى غربلة التراث ونسيان ما فيه من قلائد تلمع وليست ذهباًن حكايتها واقعية وأسطورية وتاريخية وغريبة، مثيرة للوجدان وللخيال وللعقل، والأهم أنها قد صيغت بشكل يتناغم فيه الفكر مع الفن.
د. ربيعة ابي فاضل