لماذا يهاجر الشباب والكفايات العالية؟
لم تخضع حركة «هجرة الأدمغة» عبر التاريخ الى مقاييس ثابتة، ومع أن نسبتها اليوم لا تتجاوز 2% تقريبا من عدد سكان العالم، فهي لا تقتصر في تسربها على مسار واحد، بين دول الدفع والجذب، وانما تسير في اتجاهات ثلاثة:
– من الدول المتخلفة (النامية) الدافعة لها، نحو الدول المتقدمة الجاذبة لها كالولايات المتحدة الاميركية، اوستراليا، وكندا واوروبا والبرازيل).
– من الدول المتقدمة المرسلة لها ( بريطانيا ، المانيا الغربية ، فرنسا، السويد، سويسرا ، اليابان وكندا ) ، باتجاه الولايات المتحدة الاميركية المستقبلة لها.
– من الدول المتقدمة المصدرة لها الى الدول المتخلفة المستوردة لها، ويشكل العالم العربي النموذج لهذه الحالة ، التي تقوم على تهجير أدمغتها، واستخدام الكفايات الأجنبية مكانها.
وفي مختلف الأحوال الثلاثة المتقدمة، تبقى الولايات المتحدة الاميركية «المصيدة» الكبرى والمحطة الأخيرة للأدمغة المهاجرة اليها من بقية أنحاء العالم، كما يبقى القاسم المشترك او الهدف الجامع بين معظم أهل الأدمغة هو السعي وراء الفرص العادلة للعمل والكسب او المزيد من التحصيل العلمي والتخصص، او البحث عن الحرية الاكاديمية والبيئة المعرفية والعلمية السليمة والحرية الشخصية والكرامة الانسانية.
تتعدّد أسباب الهجرة عموما، الا أن العامل الاقتصادي يتقدم على غيره، ويشكل ما نسبته 70.4%، تليه الهجرة من أجل تحصيل العلم والعيش, 13.2%، فالسبب الأمني10.8%، فالفوضى التي تتمثل بغياب احترام القوانين 1.5%، انتهاء 4.1% للاسباب الأخرى.
أما أسباب هجرة الأدمغة والشباب بشكل عام تتلخص بالعناوين الآتية، وكل منها، بحاجة الى دراسة مستقلة.
أمامنا ستة عناوين رئيسية تتحكم بهجرة الأدمغة والشباب، وعنها تتفرع عناوين ثانوية، وهي :
1 الأسباب الاقتصادية
• قلة الدخل المادي
• استمرار التخلف الاقتصادي وتضخم الحرمان.
• انعدام التخطيط العلمي السليم.
• غياب الايديولوجية الاقتصادية المنهجية.
2 الواقع السياسي والانتكاسات والهزائم المتلاحقة ،وعدم الافادة من الانتصارات على العدو الاسرائيلي .
• مصادرة الكلمة
• سيطرة طبقة معينة وتحكمها لضرب حركة المثقفين
• انعدام تقدير الكفاءات العلمية…
• انعكاس عدم الاستقرار السياسي على الأوضاع الاقتصادية..
• الانتكاسات والهزائم المتلاحقة أمام العدو الاسرائيلي وعدم الافادة من انتصارات المقاومة الوطنية عليه…
• الشك الحكومي بذوي الخبرات والتخصص…
3 التعسف الاداري- البيروقراطي.
• سيطرة الروتين الاداري – البيروقراطي الجامد.
• عرقلة الأمور التي تستدعي سرعة في القرار والحلول.
• سياسة العراقيل المقصودة والمماطلات التعويقية
• بيروقراطية الجامعات والمدارس والمعاهد.
4 انعدام الحرية الاكاديمية وتجميد البحث العلمي الجاد.
• انحسار البحوث العلمية وانكماشاتها وضحالتها.
• انعدام الابتكار والتجديد والخلق والابداع.
• عدم وجود ارتباط بين خطط التنمية من جهة والانتاج والبحث العلمي من جهة أخرى.
• افتقار البحث العلمي الى الوسائل والادوات التي نعني بها المختبرات والأجهزة والكوادر الفنية المحلية لاستخدامها.
• اتجاه معظم البحوث العلمية المتدنية نحو غايات نفعية.
• انزلاق الأساتذة والباحثين في تكتلات مشبوهة.
5 الأسباب الاجتماعية والحضارية.
• ايمان معظم الأنظمة العربية بالعبقرية المطلقة بالخبرات الأجنبية، بالرغم من الدور المخابراتي المشبوه الذي تقوم به.
• تضخم الدوائر والمؤسسات الحكومية بالموظفين الاداريين وظهور ما يطلق عليه السرطان البيروقراطي دون ان يخضع ذلك للتخصص او التدريب المسبق.
• تفضيل الأجانب على الموطنين والخبراء المحليين.
6- العوامل الثقافية.
تعتبر الأوضاع الثقافية في معظم مجتمعات العالم الثالث المتخلفة من عوامل الدفع التي تقود الى هجرة الخبرات العلمية وبالذات الدارسين منهم الى الخارج ، وذلك لأن المستوى الثقافي لتلك النخبة من الخبراء تجعلها تقف غريبة كل الغرابة عن المستوى الثقافي لعامة أفراد الشعب. وبدلا من ان تجد نفسها في مركز القيادة للشعب فانها تجد نفسها منعزلة في منطقة الغربة والعزلة: لوجود فجوة كبيرة بينها وبين عامة افراد الشعب. هذا بحد ذاته يشكل عجزا كاملا لها القيام بدورها، ويدفعها – سيكولوجيا- الى محاولة الهرب والانسحاب الى مكان فيه امكانية التعبير عن النفس والانتماء- ويعتبر النظام التعليمي في دول العالم العربي بما يتضمنه من سلبيات من أشد القوى دفعا للهجرة وتصعيدا لها.
ولتصوير المأساة التي يعيشها المثقف العربي غريبا في وطنه وبلاده نعرض قصة الفيلسوف العالم الذي اقترف ذنبا فعلم به سليمان الحكيم فطلبه للمحاكمة. وبعد نقاش طويل لفظ حكمه على العالم ، قائلا: «سنحكم عليك حكما أقوى من الموت»؟ فأطرق الفيلسوف في استغراب وتأمل وسأل؟ ما هو؟ فأجاب سليمان الحكيم :«حكمنا عليك أن تقيم بين قوم يجهلون قدرتك»
ويروى أن انكلترا كانت على استعداد للتخلي عن احدى مستعمراتها, ولكنها لم تكن مستعدة لأن تتنازل عن أديبها الكبير شكسبير, في حين يعلق أحد الأجانب بقوله: ان الحكام العرب يقطعون حلوق شعوبهم بالسكين, علما أن الحاجة ماسة «لعقول عربية» وخبرات محلية لمحاربة كافة أوجه التخلف العام, ومع ذلك فهناك أسوأ الأساليب لتهجير هذه الخبرات وتنفيرها من البقاء في الوطن.
باختصار، هجرة الأدمغة هي مظهر من مظاهر الخلل العام في أي مجتمع نام على مختلف صعده الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والمهنية والتعليمية.. يتقدم ذلك كله الازدياد الهائل في فتح الجامعات المتخصصة، وارتفاع عدد المتخرجين، وغياب التخطيط لاستيعابهم في فرص عمل ملائمة لهم، اضافة الى دور البلدان المتقدمة في اغرائهم وجذبهم وامتصاص طاقاتهم.
ان تردي الحالة المعرفية وأوضاع البحث العلمي والتأليف والاختراع يدفع بالمزيد من الأدمغة الى الهجرة، وهذه بعض الأمثلة عن حالة هذا التردي:
– الفرد في منطقتنا ( العالم العربي ) يمضي 5 ساعات يوميا أمام التلفاز، أي ما مجموعه حوالي 15 سنة من عمره السبعيني، في حي لا يقرأ الا نصف ساعة سنويا، أي بمعدل 35 ساعة في سبعين سنة. وهكذا يستهلك ابن السبعين 15 عاما من حياته أمام التلفاز، ويوم ونصف فقط في القراءة. ( من تقرير للأمم المتحدة، 1998).
– عام 1997 أصدرت الدول العربية مجتمعة: 24 براءة اختراع، مقابل 577 براءة أصدرتها الدولة العدو (اسرائيل). وفي حين ينفق العرب 0.20% من موازناتهم على قطاع الأبحاث والتأليف، أي بأقل 15% من المتوسط العالمي (1.4%)، فان «اسرائيل» تصرف 2.4%، أي ما نسبته 25 مرة أكثر من الدول العربية مجتمعة. علما أن «اسرائيل» تمتلك 400 وصلة انترنت من أصل 700 وصلة في الشرق الأوسط، وهي تستخدمها للأبحاث والاكتشافات وشن حربها المعلوماتية المدمرة علينا.
– تدني عدد القراء وارتفاع نسبة الأمية ، ان بعض الكتب الرائجة في العالم العربي طبع منها 3000 نسخة لم يوزع منها في فترة الخمس سنوات (1994-1999) الا 500 نسخة على نصف مليار ناطق باللغة العربية في العالم. علما ان عدد الأميين تجاوز في نهاية القرن الماضي ال 66 مليونا من أصل عدد السكان البالغ حوالي 250 مليونا في العالم العربي . وفي دراسة أجرتها وزارة الشؤون الاجتماعية اللبنانية مع صندوق الأمم المتحدة للسكان حول «مسح المعطيات الاحصائية للسكان والمساكن 1994-1996» أفادت أن الكفاءات المهاجرة تشكل 63% من مجموع المغادرين، منهم 33% من حاملي الشهادات الجامعية.
هذا وتعتبر هجرة الادمغة خسارة في مجال التعليم في جميع مراحله, اذ أنه من المعلوم أن البلاد العربية تعتبر من أكثر المناطق أمية في العالم, لذلك فهي تحتاج الى طاقات هائلة جدا في قطاع التعليم للقضاء على افة الامية المتفشية.
يتبع : كيف نحافظ على ادمغة الوطن وشبابه ؟