المشهد الحالي في بيروت ودمشق هو ثمرة عقود من الإخفاقات لقيادات كلا النظامين. لا أحد ينكر أن تدخل نظام دمشق في بدايات الحرب الأهلية كان له أسبابه المحلية والإقليمية والدولية والاستهداف الأبرز كان منع تمدد الصراع ليطال الداخل الشامي وهو الأمر الذي حصل في بداية الثمانينات. بداية الإخفاق يمكن تلمسه بعد إقرار اتفاق الطائف حيث نقل لبنان من نظام ميثاقي طائفي مركزي إلى نظام فيدرالي طائفي الأمر الذي سمح لكل مكون طائفي ليغني على ليلاه.
لو كان للبراق عيناً لما تدهورت الأوضاع لتصل للحضيض الحالي فأصوات النشاز الحالية كان يمكن تلافيها، أن بموضوعة الاستفحال الطائفي والمذهبي أو بما يسمى السلام الانهزامي والتطبيع. وكل ذلك لان النظام السابق في دمشق الذي ادعى العروبة والاشتراكية لم يقم بواجبه التاريخي تجاه ما حمله من فكر بحيث فضل استدامة النظام على الحقائق التاريخية التي كان يتلوها الأسد الأب على مضيفيه دون أن يجعل منها نهج عمل لنظامه.
تصفح مدونات التاريخ تدل على أن ما أصاب المشرق السوراقي كما والاستيطان في فلسطين كان وراؤه سذاجة من فاوض عن أهل (العروبة) مع الحلفاء بهدف التخلص من خلافة ال عثمان. فالمفاوض لم يراع عهداً وجل ما استهدفه كان توريث الأنجال وقبض الأموال، ولشدة نهمه تم التخلص منه لاحقاً مع تعويض بسيط على حساب أهل فلسطين من خلال اقتطاع شرق الأردن وجعله مملكة ،كل ما فعلته قيادتها كان مثيراً للريبة منذ النكبة لحرب ال 67. سذاجة أولئك قابله عدم نضوج أصحاب الفكر القومي ممن تولوا مقاليد الحكم في الجمهوريات التي قامت خارج العربة، إذ آثر هؤلاء الحكم باي ثمن فتارة يتصدون للإسلاميين ممن أعدتهم الأجهزة الغربية كما حدث مؤخراً مع القاعدة وأخواتها وطوراً يملئونهم لمكاسب آنية دون أن يستطيعوا إنفاذ الأفكار التي اعتنقوها إلى عقول وأفئدة العامة. فصدام في آخر أيامه لجأ لتدوين كلمة (الله اكبر)على علم العراق وفي دمشق عمم نظام الأسد صورة للأنجال وهم يقومون بتأدية مناسك العمرة في السعودية. وكان المعروف عن النظامين أن قادته ليسوا ممن يؤدون الفرائض الدينية إلا في مناسبات معينة لكسب الرضى لا غير. أما الملفت في قيادات الخليج بعد أن تخلصوا من أهل الفكر القومي رفعهم لرايته بعد تدخل ايران في دعم أهل المشرق ضد الصهاينة وأصبح كل شيء مباح من الموسيقى للخمر للسفور وبفتاوى من هذا الجهبذ أو ذاك ممن كانوا يفتون العكس في سابق العهود.
ليس الشعوب والدول حقل تجارب أن للفكر الديني أو لصنوه الوضعي، هما ثمرة لمسار تاريخي لعلاقة الإنسان بالبيئة وظهور الأفكار المنظمة والشارحة والمفسرة لحركة الكون لم تكن لتكون لولا عملية الاستقرار وبداية الاجتماع البشري فأفكار الأفراد كانت منصبة على حب البقاء ليس إلا. الاجتماع البشري والثبات في الأرض فتحا أفقاً جديداً للإنسان جعلاه يستمطر الأسئلة في كل شاردة وواردة، والإجابات أثبتت أنها ليست حقائق إلا تلك التي ادخلها الإنسان إلى المخبر عبر الملاحظة والتجربة لاستخلاص قوانين الظاهرة موضوعة السؤال. لذا أمكن تنظيم العلاقات نسبياً بين الأفراد، ولاحقاً أيضاً نسبياً أمكن تنظيم العلاقات بين الجماعات (دول) من خلال عصبة الأمم وبعدها الأمم المتحدة، لكن بقيت كلتاهما تخضعان لمبدأ القوة كما الحال في عهد القنص أي فترة الارتحال وليس الاستقرار.
المشرق اليوم يدفع الأثمان الباهظة لعدم قدرة المنظومات التي قامت إثر الحربين العالميتين بالإجابة على الأسئلة المحورية للمجموع البشري المكون له. وعلى راس تلك الأسئلة، من نحن. هل نحن ثمرة فكر ديني ظهر في هذه الحقبة أو تلك، أم نحن ثمرة فكر وضعي ظهر اثر تعثر الأول بالحفاظ على امن واستقرار الجماعة، أم أننا ثمرة تفاعل تاريخي بين الإنسان والإنسان وبينهما وبين الأرض، تفاعل وأقام حضارة جعلتها مرجعا للعلماء والفلاسفة في شتى أنواع الحقول حتى تلك المتعلقة بظاهرة المقدس. والصراع الدائر عليه وبه اليوم لم يكن ليكون لولا عراقته بالتاريخ لجهة الإنتاج والموارد والإبداع وذلك بالنسبة للأول وضياع الهوية بالنسبة للثاني. معالجة الصراع عليه من سابع المستحيلات قبل تثبيت الهوية التي وحدها كفيلة بالعلاج وليتذكر الجميع أن الاقتتال على السماء إنما مقدمة لفقدان الأرض وضياع الإنسان.