مما لا شك فيه، أن ظاهرة هجرة الأدمغة والشباب المزمنة، التي تعود تاريخياً إلى مطلع القرن الماضي، قد تحولت في دول العالم العربي عموما، ولبنان خصوصاً، إلى مشكلة حقيقية، تبدو مستعصية على الحل في ظل السياسات المختلفة والمتخلفة التي تخضع لها شعوب العالم العربي، التي ما كادت تتحرر وتنال استقلالها بعد استعمار طويل، دام في المدى المنظور حوالي 500 عاماً، حتى سقطت من جديد في مثلث التجزئة والتبعية والتخلف، في اطار مشروع استعماري منظم يقضي بتمكين «اسرائيل» من بسط سيطرتها ونفوذها على دول المنطقة وثرواتها، ونسارع إلى القول، ان الخلاص لن يكون الا عبر الإقدام بجرأة نحو تبني مشاريع التنمية المستدامة، في التصدي للتخلف بالتقدم، والتجزئة بالوحدة، والتبعية بالاستقلال والسيادة، وتبقى التنمية الاطار الصالح لدراسة العديد من المشاكل في دول العالم العربي، لا سيما في لبنان، وفي مقدمة هذه المشاكل مسألة الهجرة للعمل أو ما اصطلح على تسميته هجرة الأدمغة والشباب.
أولا ً: ماذا نعني بهجرة الادمغة والشباب ؟
ليست الهجرة الحديثة للأدمغة أو العقول أو الكفايات العالية، مجرد انتقال أفراد عاديين من الدول المتخلفة تنموياً إلى البلدان المتقدمة تكنولوجياً، بل هي هجرة انتقائية نوعية تركز على اختيار أو اصطياد المواهب الشابة المبدعة والمنتجة، وذلك في إطار تشريعات ومؤسسات وبعثات خاصة، وقد أطلق اخصائيو الهجرة على هذه العملية مصطلح «اصطياد العقول»، في مقاربة له من تعبير «اصطياد الرؤوس»، الذي كان سائداً في المجتمع القبلي المتوحش، في ظل شريعة الغاب، التي شهدنا على المسرح العراقي سابقاً بعض فصولها، حيث تولى الموساد الاسرائيلي اغتيال علماء الذرة وأساتذة الجامعات، وعلى لائحته السوداء ألف عالم، وعدد لا يحصى من أساتذة الجامعات، وقد قتل منهم، حتى الآن، أكثر من450 عالماً و 200 أستاذاً، لأنهم رفضوا خيانة بلدهم، والتعاون مع المحتل الأمريكانيو «إسرائيل» .. وقد كان كامل حسن الصباح، الذي قال فيه أحد العلماء: «ان دماغ الصباح يشتغل دائماً، وهو يحوي قدر خمسة أدمغة»، عميد شهداء الأدمغة الذي اغتيل في الولايات المتحدة الاميركية منذ حوالي تسعين عاماً، وهو يحاول تسخير الطاقة الشمسية للبحث العلمي، حيث كانت هذه الطاقة الأساس في وصول المركبة الفضائية الأميركية إلى المريخ، وقد شاءت الصدف أن ينجح العالم اللبناني مصطفى شاهين في الاشراف على بناء ادارة المركبة الفضائية التي هبطت على سطح المريخ أخيراً. ويذكر أن العالم شاهين ولد في العام نفسه الذي استشهد فيه العالم الصباح سنة 1935. وما يشهده الكيان الشامي اليوم، لا يقل خطورة عما شهده الكيان العراقي، كما أشرنا .
وقد صار واضحاً ان تعبير «هجرة الأدمغة» يشمل الكفايات، عموماً، من مهارات ومؤسسات وعمالة وأموال وتراث وأصول، والأدمغة، خصوصاً، أي الكفايات العقلية والعلمية والابداعية والفكرية والفنية، والتي تشكل مجتمعة في أية أمة ثروة وطنية هائلة، وموردا نادراً من مواردها. وباختصار يندرج في لائحة «هجرة الأدمغة»: هجرة العقول المتخصصة، وحملة الكفاءات والشهادات الجامعية والمواهب والمؤهلات كالأطباء والمهندسين والعلماء ورجال الأعمال والاقتصاد والخبراء الفنيين واليد العاملة الماهرة، والتي تشكل مجتمعة العامل الرئيسي في موضوع البحث العلمي وغايته التي هي انماء المجتمع واعماره وتشييد حضارته.
ما حجم مشكلة هجرة الادمغة والشباب من لبنان ؟
يعاني لبنان منذ مطلع القرن الماضي، ومنذ استقلاله، على المدى المنظور، مشكلة في هجرة أدمغته المتواصلة المتصاعدة التي تحولت اليوم إلى نزيف حاد خطر يهدّد هذا الكيان في مستقبله ووجوده. ولو أعدنا تركيب العناوين التي تصدّرت في صحافة لبنان اليومية منذ مطلع هذا القرن، لوقفنا على حجم هذه الكارثة الوطنية، ومن الأمثلة على ذلك :
لبنان ينزف هجرة.. والهجرة في لبنان بلغت الخط الأحمر .. 65 ألفا يهاجرون سنويا.. الشبان يشكلون 80% من المهاجرين.. 70% نسبة الهجرة في قطاع التكنولوجيا والاتصالات.. هجرة الأدمغة تهدد بتفريغ لبنان من شبابه.. الهجرة تستنزف المجتمع والجامعيون أول الراغبين.. يتخرجون من الجامعات إلى بلاد الله الواسعة.. 5000 من اليد العاملة الماهرة غادرت الوطن.. هجرة الشباب، وطن بلا مستقبل .. يهاجر 16 ألفا، ويولد 8 آلاف شهريا.. لبنان سيفرغ من اللبنانيين خلال 30 عاما.. لبنان في قطر، أم لبنان في خطر.. فمن يقرع ناقوس الخطر؟.
ومن الملاحظ أنّ هجرة الشباب والأدمغة، ارتفعت معدلاته في العامين الأخيرين نتيجة الاعتداءت الاسرائلية على لبنان، ولامست أعداد المغادرين من هؤلأ الشباب حدود المليون نسمة !
يعتبر لبنان، بالرغم من قلة عدد سكانه، حسب د. علي فاعورـ «الهجرة للبحث عن وطن» ص (199 ـ 200) ـ من الدول الرئيسية المصدرة للكفاءات، التي تشكل مصدر القلق الرئيسي، بالنسبة للدول المعرضة لهجرة العقول. ويضيف أنه بالرغم من التكاليف الباهظة التي تتكبدها الدول الفقيرة في تعليم أبنائها، فهي تتعرض لسرقة منظمة لمواردها، تقوم بها الدول الكبرى دون رادع، وذلك عبر التسهيلات و الاغراءات التي تقدم لاجتذاب أصحاب الخبرات والعلماء الراغبين بتحسين أوضاعهم مما يحرم بلدانهم من الخبرات التي اكتسبوها. ويعتبر فاعور أن لبنان صار أنموذجا للدولة التي تتعرض اليوم لخسارة الكفاءات والقوى البشرية فيها، بينما تواجه اليوم أخطر محنة سياسية، نتيجة النزاعات الداخلية المتواصلة، ولا تقتصر هذه الخسارة الوطنية، بنظر فاعور على الأدمغة فحسب بل هي عملية استنزاف واسعة لعناصره الشابة المدربة مهنيا وحرفيا، والتي طالت في بعض الاحيان العمال (الفعلة) الذين تم ترحيلهم من القرى الفقيرة عبر تجارة منظمة لها سماسرة و شركات تعمل في الأرياف و المدن (بالتنسيق مع بعض السفارات) .. وهذا الأمر مازال مستمرا حتى اليوم؟!
في الحلقة الثانية : لماذا يهاجر الشباب والأدمغة