في عمق الجغرافيا السورية الطبيعية وعلى امتداد التاريخ الممتد من بابل الرافدية إلى بيروت المتوسط تنبض سرديات السلطة والتشريع والفكر القومي. شريعة حمورابي تلك المدونة القانونية الأقدم في تاريخ البشرية لم تكن مجرد نصوص حجرية، بل منظومة حكم وسلطة. واليوم يقف فكر أنطون سعاده بصفته مشروعًا نهضويًا متكاملًا في موقع مشابه: نشأ كسلطة فكرية تنشد التغيير الشامل، ثم تراجع بهمة تلاميذه عن الوعي العام إلى حدود «التراث الفكري» والشأن الشخصاني والعائلي وأصبحوا يُستشهدون به لسعاده كشعار دون أن يُطبَّق. فما وجه الشبه بين الشريعتين، وما هي دلالات هذا التحول من الفعل إلى الذكرى؟
شريعة حمورابي سلطة القانون في مهد الحضارة وُضعت شريعة حمورابي حوالي العام 1755 ق.م في بابل على أرض تُعد اليوم جزءًا من البيئة السورية الطبيعية. لم تكن تلك الشريعة نصوصًا أخلاقية فقط، بل مثّلت أوّل محاولة لتقنين السلطة على أسس واضحة تنظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم وتُحيل فكرة “العدالة” من المفهوم الديني المجرد إلى الواقع القانوني الملموس. ومع مرور الزمن تحوّلت هذه الشريعة إلى أثر تاريخي وحجر منقوش في المتاحف بعد أن سقطت الدولة التي احتضنتها وزال الإطار الذي منحها الحياة.
فكر أنطون سعاده مشروع النهضة، الذي أعلن في ثلاثينات القرن العشرين عن نشوء الحزب السوري القومي الاجتماعي لم يقدّم برنامجًا سياسيًا فحسب بل مشروعًا فلسفيًا شاملًا ينهض على رؤية علمية للأمة ويُحدِّد مبادئ النهضة في الحرية، والواجب والنظام والقوة. هذا الفكر جاء ليؤسس “شريعة قومية” حديثة جديدة للإنسان الجديد تتجاوز الانتماءات الطائفية والمحلية وتُعيد صياغة مفاهيم السيادة والانتماء.
كما في شريعة حمورابي كانت فلسفة سعاده تهدف إلى تنظيم المجتمع وفق أسس علمية وقيمية لا دينية ولا عشائرية. وقد أدّى فكره في لحظات مفصلية إلى إحداث فعل مباشر في الواقع: مقاومة، تنظيم، استشهاد، تعبئة شعبية. لكنه مع مرور الزمن أخذ يتحوّل – كما حمورابي – إلى “مدونة فكرية” أكثر منه سلطة فاعلة يُتلى ويُحتفل به دون أن يُمارَس عمليًا في السياسات العامة ولا في بنية الدولة.
التحول من الفعل إلى الأثر أسباب وتداعيات إن هذا التحوّل من فكر حاكم إلى تراثي لا يُلام عليه النص نفسه، بل البيئة التاريخية والسياسية التي حالت دون تطبيقه. ففي الحالتين لم تكن المشكلة في الشريعة أو العقيدة، بل في انهيار البنية الحاضنة لها. الدولة التي احتضنت حمورابي زالت فبقي القانون نقشًا على حجر. والدولة التي حلم بها سعاده لم تولد بعد، فتحوّل فكره إلى موروث نخبوي محفوظ في الأدبيات مغيّب في الحياة العامة والشخصية والعائلية.
هل يُستعاد الحيّ من التراث؟ الفرق الجوهري بين حمورابي وسعاده أن الأول لم يترك لنا إلا النص أما الثاني فترك التنظيم والعقيدة والانتماء. وبالتالي فإن مشروع سعاده لم ينقطع تاريخه، بل تعطّلت حركته بفراغية وشعارتية وكذب القوميون. وإذا كان من الممكن أن نُعيد إحياء فكر سعاده فذلك لا يكون بتأبيده في الكتب، بل بتحويله مجددًا إلى سلطة واقعية: في التنظيم الحياتي والاجتماعي، في الاقتصاد القومي في المواجهة الحضارية في التربية والثقافة والموقف من قضايا التحرّر.
بين شريعة حمورابي وفكر أنطون سعاده تكرّر المسار الحضاري ذاته: فكرٌ نابعٌ من هذه الأرض يحكمها لحظةً ثم يُختزَل في الذاكرة. لكن الفرق أن سعاده لم يكن مجرد مشرّع، بل كان مشروع حياة متجدد. فإذا تركناه يُنحت على الجدران كما نُحتت شريعة حمورابي نكون قد خانّا الحياة نفسها. أما إذا جعلناه نبضًا في السياسات والمواقف نكون قد نقلناه من حجر الذاكرة إلى لحم المستقبل.
يا ترى هل يُكتب لفكر أنطون سعاده أن يكون كمثل شريعة حمورابي؟ منظومة حاكمة في زمنها، ثم تُركن في زوايا التاريخ يُحتفى بها كشاهد حضاري دون أن تُمارَس؟
هل نترك هذا الفكر، الذي أراد أن يصنع أمة، يتحوّل إلى “نص جميل”، يُتلى في المناسبات، كما تُعرض ألواح حمورابي في المتاحف؟
الجواب لا يصنعه المؤرخون، بل تصنعه الافعال التي تمارس وتقرر: إما أن تجعل من فكر سعاده تراثًا يُبكى عليه، أو تُعيد إليه نبض الحياة كقانون حيّ ممارس للأرض والإنسان والمصير.
وها هو فكر سعاده لا يزال يمشي في الزمن لا كذكرى تُتلى، بل كأمثلة حيّة تسعى أن تكون شريعةً حديثة تُنقش لا على حجر الماضي، بل في ضمير الأمة… شريعة لا تكتفي بأن تُعرَض، بل تطمح لأن تُمارس لأن تُقاتل لأن تُنهض تمامًا كما أرادها صاحبها: حقًا في الحياة لا تراثًا للمتحف.
فكر سعاده الذي وُلد ليكون ثورة وعقيدة ونهضة بينما يريده البعض ان يسير نحو مصير المسلّة… يريدونه ان يُجاور شريعة حمورابي في المتحف نصًّا منقوشًا يُقر، لا يُطبّق… يُحتفى به في المناسبات لا في ميادين الفعل. فهل نتركه ينقرض كغيره من الشرائع التي زالت بزوال دولها؟ أم نعيد إليه الحياة قبل أن يُختزل نهائيًا إلى حجر شاهِد على أمة لم تقرأ ما كتب لها؟
فليس كل ما مضى مات… وبعض الماضي ينتظر من يبعثه.
عبد الاله الهويدي