ظهرت بدايات فكرة التصوير الضوئي مع الفيلسوف أرسطو خلال القرن الرابع قبل الميلاد، عندما اقترح تمرير شعاع من ضوء الشمس إلى غرفة مظلمةٍ، وذلك لتعكس شكلاً ما داخلها، وهو ما حلم أرسطو بتحقيقه من حيث تجسيد الأشكال المرئية، والذي يعني بطريقة أو بأخرى بأنّ إسقاط النور على الظلام يولّد معرفة جديدة أي؛ صورة أو شكلاً جديداً، ربّما كان أرسطو قد استفاد من معلّمه أفلاطون عندما تحدث عن نظرية المُثل أو الصورة والمثال أو بتشبيه أفلاطون للحقيقة بأنّها كالأخيلة التي تمرّ أمامنا. يمكن للصورة أن تحمل معنيين المعنى الأول الحسّي وفيه يتم التصوير من خلال النّحت أو الرسم أو التصوير الزيتي أو الفوتوغرافي، أمّا المعنى الثاني فهو المعنى الذهني أيْ؛ الصورة الذهنية أو العقلية، وهي التي تُكوّن من خلال الأفكار ومن خلال الخيوط التي ينسجها العقل حول موضوع معين. وبالانتقال إلى عالم فنّ التصوير نستطيع أن نقول بأنّ صورة المرء غير المرء، فنحن نجلس ونتأمل صورنا القديمة، لندرك أنّ الصور تبقى كما هي لتحمل انفعالات تلك اللحظة التي جُسِدت بها، والتي يظهر من خلالها بعض من الصورة الذهنية المنعكسة في الصورة الحسّية أو الخارجية أمّا نحن فنتغير من حينٍ إلى أخر، وبالتالي تتغير صورنا لتتوافق مع ما نحن عليه.
وبناءً على هذه الفكرة الفلسفية استطاع أحد أبناء سوريا البررة ولوج عالم التصوير بكلّ ثقة، ليحقق شهرةً عالميةً وحضوراً فنياً عزّ نظيره إنّه الفنان والمصّور العالمي «بهجت اسكندر».
مسيرةٌ حافلةٌ
ولد اسكندر عام 1943م، في قرية «سنقونس» التابعة لمنطقة «جبلة» في سوريا وقد خرج من سوريا ليكمل دراسته في الهندسة الميكانيكية في المجر عام 1967م، ومن ثم حصل على شهادة تتيح له التدريس في الجامعات المجرية عام 1976م، ابتدأت الأعمال الفنية للمصور «بهجت اسكندر» في الظهور للنور منذ العام 1968م، وله مشاركات كثيرة على صعيد دولة المجر والعالم، فقد شارك في معارض فردية وجماعية بلغت أكثر من 250 مئتين وخمسين معرضاً وهي تعصى على التعداد في هذا المقام إلا أنّنا سنذكر أبرزها مثال: معرض كالكاري CALGARY 1975 في كندا، ومعرض ألاباما ALABAMA 1976 في أمريكا، ومعرض في الجزائر عام 1981م، ومعرض في الدانمارك عام 2000م، ومعرض في فرنسا عام 2001م، ومعرض في مصر عام 2010م، ومعرض في سوريا عامي 2010-2011م، ومعرض في بودابست تحت عنوان «سوريا مهد الحضارة» عام 2019م، ومعرض في صوفيا العاصمة البلغارية عام 2024م، كما أن له معرض دائم في مدينة كتشكميت المجرية. وكان للفنان «اسكندر» مساهمة في كتابة تاريخ المجر الحديث واسكندر عضو في ملتقى فيرانكا Veránka السنوي للكتاب والشعراء المجريين، كما أنّ للفنان «اسكندر» جانبٌ إنساني عميقٌ حيث نظّم العديد من المعارض التي عاد ريعها لصالح الأعمال الإنسانية، و«اسكندر» عضو في اتحاد الفنانيين الضوئيين المجريين منذ عام 1980م، لقد حصد الفنان بهجت اسكندر خلال مسيرته الحافلة بالإنجازات الفنية الكثير من الجوائز والتي قلما حصل عليها فنان في التصوير الضوئي في العالم بأثره ومن تلك الجوائز: جائزة مسابقة التصوير الضوئي للمعاهد والجامعات المجرية عام 1968م، جائزة جمعية الفنانين المجريين للتصوير عام1979م، وسام الجمهورية المجرية بلقب فارس عام 2008م، وسام الاستحقاق لجمهورية المجر عام 2019م كما حصل على تكريم في بلغاريا بأعلى استحقاق وزاري عام 2021م، كما حاز على وسام الدبلوم الذهبي من جامعة دونا وي فاروش عام 2022م، وأما الجائزة الأعظم فقد كانت جائزة كوشوت والتي قلّده إيّاها الرئيس المجري شخصياً عام 2022م،
وقد أفردت وسائل الإعلام المجرية والعالمية، وبما فيها بعض وسائل الإعلام العربية مساحاتٍ شاسعة للحديث عن الفنان العالمي بهجت اسكندر وعن مسيرته وتاريخه الفني كما أخرج العديد من الأفلام عن حياته وأعماله الفنية ومنها: فيلم قامت جامعة صوفيا بإنجازه عام 2019م، وفيلم وثائقي أخر أنجزه مجلس هوليود المجري عام 2021م، يمتلك اسكندر إضافةً للعين والذائقة الفنية مركزاً ثقافياً في مدينة كتشكميت المجرية يقصده الكثير من المفكرين والأدباء والشعراء والدبلوماسيين والزوار العاديين ، أما حديقة بيته ومركزه الثقافي فهي المكان الفسيح الرّحب لزرع شجيرات الصداقة والمحبّة والإخلاص، وكذلك هي مكانٌ محبّبٌ لالتقاط الصّور الفنّية التي يباغت بها اسكندر أصدقاءه أحياناً.
اسكندر والنّفس الخلّاقة
تلعب طبيعة الكرم التي يتمتع بها بهجت اسكندر دوراً كبيراً في إضفاء الطابع الإنساني الخاص في تعامله مع أصدقائه وزواره. يقول عنه الشاعر المجري فرنس بودا Ferenc Buda«حسب اعتقادي فقد كانت لديه الموهبة المبدعة منذ لحظة ولادته، ثم نمت وتطورت وارتقت مع مواهبه الأخرى وعلى الأخص بفض قوة شعوره وسمو إحساسه وهو بهده الروح الاستثنائية، حقق بالإيماءة والإشارة والكلمة الاتصال مع مختلف طبقات البشر فكسب ثقة الجميع».
وتحت عنوان بهجت اسكندر حوار البصر والبصيرة كتب الشاعر والمفكر السوري أدونيس Adonis رأياً بالفنان اسكندر أقتبس منه ما يأتي«لا يقدم بهجت اسكندر في فنّه الفوتوغرافي مجرّد مشهدٍ بصريّ، وإنّما يقدّم كذلك معرفةً. من الأليف يستخرج عناصره الغريبة، ومن القريب يأخذ البعد، ومن الأفقي يستخلص عموديته. حتى أنّنا نتساءل حينما نتأمل عملاً من أعماله، أترانا نشاهد واقعاً أم حلماً؟ أين تبدأ المخيلة وأين ينتهي الواقع؟ هكذا يحاول عندما يتحاور مع الظاهر، أن يكشف الخفيّ، وفيما يبدو عمله كأنّه نبضٌ في قلب الزمن، يبدو في الوقت نفسه كأنّه سابح في فضاءِ المطلق».
الدكتور عبد الوهاب أبو صالح يحاور الفنان المبدع بهجت اسكندر
حوار هادئ…وأسئلة في الفنّ
عند سؤال بهجت اسكندر عن تاريخ الصورة الأولى التي التقطها قال: كانت لأحد زملاء الدراسة كما أعتقد، ولكن الصورة الأولى التي نالت جائزة ، كانت لفتاة قلقة تنتظر في محطة الباص بحالة ارتباك واضحة ممّا أوحى لي أنّها متوجهةٌ إلى موعدٍ مهمٍ، وبعد استئذانها قمت بالتقاط صورة لها وأعطيت تلك الصورة عنواناً هو «ماذا سيجري لك يا إستر» ومن قبيل المصادفة أنّ الخلفية التي اتخذتها لالتقاط الصورة كانت موقف الباص المليء بالدعايات، وإحدى تلك الدعايات كان دعاية لفيلم سينمائي تحت عنوان «ماذا سيجري لك يا إستر» فاتفقت تسميتي للصورة مع عنوان الفيلم في خلفية الصورة، وتلك الصورة هي التي نالت جائزة الجامعات الهنغارية عام 1968م.

أما عن مدى تأثير الطفولة في أعماله الفنية فيجييب اسكندر: لقد كان للطفولة أثرٌ كبيرٌ في حياتي وفي أعمالي الفنية، فقد دفعتني الحياة القاسية والمعاناة التي عشتها في قريتي للوقوف إلى جانب المستضعفين، وقد حاولت أن أنقل معاناتهم من خلال تصويري لتلك المعاناة، ومن خلال مدّ يد العون المادية لهم في العديد من المناسباتّ وقد لفتت مواقفي تلك انتباه أدباء المجر والعديد من أدباء العالم، وكذلك يمكنك أن تجد تاثير الطفولة في أعمالي من خلال وجود مشاهد للطفولة فيها، فدائماً تلك الصورة الماضية تشدني إليها.

وفي سؤال أخر فيما إذا كانت لدى اسكندر فلسفة خاصة يحاول أن يظهرها من خلال عدسة الكاميرا فقد كان جوابه: أشعر بأنّ لديّ رسالة وواجب يجب عليّ أن أؤديه ذلك الواجب يحمّلني مسؤوليةً تجاه المظلومين والكادحين والفقراء والمعذبين، وبخاصة في الأرياف، وقد أظهرت ووثقت ذلك في العديد من بلدان العالم من المجر حتى الجزائر، ومن بلغاريا حتى سوريا.

أمّا عن الأثر النفسي للاغتراب عن سوريا، والذي بدوره ينعكس على الأعمال الفنية لإسكندر فيقول: لقد كان لفقد الوطن والأحبة من أهل وأصدقاء أثر عميق في نفسي فحاولت أن أعوض عنه ولذلك ترى الكثير من أعمالي تحمل بعض معاني الحزن أو الفراق أو البؤس وحتى الألم.
ويقول اسكندر عن المجر وعن الطبيعة المجرية، وتأثيرهما في تجربته الفنية: تملك المجر طبيعة خلابة سواء مدنها أو ريفها، ولكنّني اخترت أن يكون ريفها هو وجهتي المفضلة، وقد كانت خلفيات صوري الفنية الخاصة بالمجر بمعظمها من الطبيعة المجرية، كما عملت على توثيق الكثير من اللحظات في الريف المجري، وأود أن أشكر المجر لأنّها وفرّت لي حرية العمل والإنتاج الفنّي والمعرفي، كما حظيت بالدّعم الشعبي والمؤسساتي، والذي بالتالي انعكس على تجربتي الفّنية وصقلها وأوصلها إلى ما هي عليه الآن.

صدر لبهجت اسكندر كتاب حفنة من العالم عام 2012 باللغة المجرية وقد كتب مقدمة ذلك الكتاب الشاعر والمفكر السوري أدونيس، وفي العام 2022م، صدر لبهجت اسكندر كتابه الثاني تحت عنوان« مجرد لحظة» وقد تضمن العديد من أعماله، والتي تمثل محطات ومراحل من حياته الفنية كما أدلى الكثير من الأدباء والشعراء والفنانين المعروفين في الساحتين الفكرية والفنية المجرية والعربية والعالمية بآرائهم حول التجربة الفنية لإسكندر، ومن أبرز أولئك المساهمين صديقه المفكر والشاعر أدونيس وهنا سألت اسكندر فيما إذا حاول إسقاط بعض أفكار أدونيس على بعض أعماله الفنية أم لا ؟ فأجاب اسكندر: والتفاني إنني أفتخر بمعرفة وبصداقة أدونيس وأفكاره تتجلى خطوطها العريضة في الصدق في العمل والإخلاص، فهو يجمع مُثل القيم الإنسانية الخالصة في شخصه، وله فلسفته في الحياة والوجود، وبالتأكيد حاولت إسقاط بعض أفكاره على أعمالي الفنية. أمّا عن الزمن ودوره في المساحة الفنية لاسكندر، وفيما إذا كان يريد إيقافه في أعماله الفنّية فيقول: الزمن هو مقياس التقدم والتأخر، وكذلك لكلّ لحظةٍ زمنيةٍ خصوصيتها التي تمنحك إيّاها إن استطعت فهمها بالشكل الصحيح، ولذلك وانطلاقاً من فهمي وفلسفتي في فهم الزمن أحاول سرقة تلك اللحظات، وصياغتها في أعمالي الفنية حتى تبقى شاهداً على مرحلة زمنية بكاملها، فالصورة كما تعلم هي الوثيقة الأصدق.

أمّا عن مفهوم هل يجب أن يكون الفن لأجل الفن. فيقول اسكندر: أنا أومن بالمشروع الفني ولذلك أنا أؤمن بالفن لأجل المجتمع أو لنقل وبطريقة أخرى الفن لأجل الحياة. وعن اختياره للفن الفوتوغرافي فيقول: لقد كنت مولعاً بالفنون منذ الصغر وبخاصة الفنون الأدبية وبشكل خاص الشعر، وعندما أتيت إلى المجر كانت اللغة المجرية هي الصخرة التي تكسرت عليها طموحاتي الأدبية، ولكنها، وفي الوقت نفسه منحتني أفقاً جديداً للإبداع ألا وهو فنّ التصوير، فحاولت تجاوز صعوبات التعبير اللغوية حينها من خلال التعبير بالصورة الفنية.

أمّا عن كيفية رؤية اسكندر للصورة فيصرح قائلاً: الصورة مضغوطة في مساحة صغيرة نسبياً ومليئةً بالمعلومات والالغاز لمن يحسن قرأتها وهى لغة العصر وتنقلنا الى عالمٍ أخر حقيقي، وواقعي وقد نلاحظ الكثير من المفردات وقد نتعلم الكثير منها فالصورة الواحدة قد تعوض قراءة عشرات الصفحات -وبخاصة إذا كان المصور أميناً وصادقاً في فنه ولايستعمل أدوات التشويه والتزوير المتاحة في هذا العصر التكنولوجي المتسارع- فلذلك كان للصورة عندي معنىً أخر.

يرافق الظل النور والتساؤل هنا بوجوب التخلص منه أم لا وهنا يوضح اسكندر مكان الظل في صوره وماذا يعني له فيقول:
نعم هو موجود في بعض صوري الفنية وقد يعطي الظل واقعية للصورة، فهو مرئي في الواقع ولذلك قد ينعكس في بعض أعمالي، والظل قد يكون ذلك الشعور بأعماق النفس الإنسانية ومن الضروري حينها تظهيره في الصورة.
وعند سؤال اسكندر عن تفضيله الصورة الملونة أم الصورة بالأبيض والأسود، فيقول:
بشكل عام طريقة إخراج الصورة له دور كبير سواء كانت بالأبيض والأسود أو كانت الصورة ملونة ومن وجهة نظري أنّ الصورة بالأبيض والأسود توحي بالمضمون بشكلٍ أفضل كما أنني أحب هذه بكاملها قائمة على هذه الثنائية. الثنائية الأبيض والأسود أو السالب والموجب أو الخير والشر فالحياة
تشدّ الفنانَ اسكندر جذوره السورية بشغفٍ مندمجٍ مع الحنين إلى وطنه سوريا، ولذلك عند سؤاله عن الرابط ما بينه وبين سوريا قال: ما يربطني بسوريا- على المستوى الشخصي – هم الأهل مع ذكريات الطفولة، وكذلك الأقارب، والأصدقاء ورائحة عصر الزيتون، والتحضير لجني المحاصيل ونسائمٌ وبلابلٌ وحمائمٌ.

وفي ختام الحوار مع الفنان العالمي اسكندر كان السؤال الأخير حول ما ينتظره من بلده الأم سوريا؟ وبعد لحظاتٍ من الشرود أجاب قائلاً إنني أنتظر أن يأتي اليوم الذي تلتفت فيه سوريا إلى أبنائها المبدعين أينما كانوا، وأن تحتضنهم، وأن تحملهم بعيونها كما يحملونها -هم- بقلوبهم.
يستمر الفنان اسكندر بعطائه، وينتقل من إبداع إلى إبداع، ومن قمةٍ إلى قمة، ويجسّد اسكندر بطريقةٍ أو بأخرى قول أنطون سعادة «إنّ في النّفس السّوريةِ كلّ علمٍ، وكلّ فلسفةٍ، وكلّ فنٍّ في العالم» وهو ما استطاع اسكندر أن يثبته بفنّه وبفكره وثقافته وتواضعه وكرمه، كما استطاع أن يدخل قلوب كلّ الذين عرفوه، فهو ما يزال يحمل في قطرات دمه، وفي أنفاسه طيبة الرّيف السوري وبساطته وسماحته وعبقه وأخلاقه.

يظهر في الصورة-أثناء استلامه جائزة كوشوت- من اليمين إلى اليسارد.كوفير لاسلو رئيس البرلمان المجري، د.أوربان فيكتور رئيس وزراء المجر، الفنان العالمي بهجت اسكندر، د.أدر يانوش رئيس جمهورية المجر.
الدكتور عبد الوهاب أبو صالح