لسنا هنا بصدد إعادة تعريف الإعلام، وكذلك لسنا بصدد إعادة تعريف حرية التعبير، فهذه الأمور الحداثية لا ولن توجد إلا في ظل دولة حداثية شكلاً ومضموناً، خصوصاً أننا أمام وسائل توصيل إلكترونية، سوف تتطور مستقبلاً، كتكنولوجيات استهلاكية، جاعلة من نقل المعلومة منوطاً، بفهم الحقوق والواجبات الحداثية، كشرط ضروري لاستقبال هذه المعلومات والبناء عليها، وهذا الشرط الضروري، ناتج عن تربية تقوم بها أية دولة، من خلال ضبط مفهوم الحقيقة، وما يعنيه هذا المفهوم في الواقع المعاش، وكذلك ضبط مفهوم نقل هذه الحقيقة، حتى لا تبنى عليها تدليسات ذرائعية تجملها أو تقبحها، وعليه فإن، قوننة حق الحصول على المعلومات، يرافقه بالضرورة حرية استخدامها، بما في ذلك نقلها ونشرها، دون أية تبعات قانونية أو اجتماعية.
تم تداول عبارة ( اللغة الخشبية) لردح طويل من الزمن حتى يومنا هذا، و وهو ما يعني أن اللغة المتداولة في الإعلام، هي لغة مكرورة بالمعنى الإجتراري، كما تشير إلى خلوها من المعلومات المفيدة والصادقة، والأخبار الجديدة، بالإضافة إلى تحقيرها بخشبيتها وكأنها عملة غير صالحة للتداول، ولكن الأهم في هذه العبارة/ المصطلح، إنها ناتجة عن التربية، بمعنى أنها تراكمت كخطأ على مدى فترة طويلة، بحيث صارت تقود إما إلى الندم أو الكوارث، وهذا يعني تماماً عدم ممارسة «الدولة» ( أو لم تعرف، أو لم تقو) على ممارسة مقتضيات الدولة الحداثية واستحقاقاتها، خوفاً من تأثير المعلومات الخاضعة للقوننة، على مصداقيتها، مع العلم أنها غير خاضعة للمحاسبة من أي نوع قانونية أو انتخابية، فالاختلاف الاستفتائي حول دستور وضع حديثاً، لا يغير من نتائج الاستفتاء، فالقانونية الانتقائية (بالمعنى العنيف للكلمة) تجعل من القوانين إلعوبة ذرائعية، تفضي إلى ممارسات قمعية تؤدي إلى الصمت، وهو ما يعتبر استباب للأمن، وعليه فإن المداخل للولوج إلى الدولة أصبحت موصدة، واللغة الخشبية هي اللغة المناسبة لتولي الموظفين المهام الإعلامية، لقد أوصلت اللغة الخشبية الإعلام السوري ( وغيره من الإعلام العربي) إلى ذروة عدم الاقتناع، فما تقوله سلطة الموظفين الإعلاميين، هي تعبير حقيقي عن نوايا السلطة، دون أية مرجعية قانونية يمكن الاحتكام لها، سوى مجموعة تعليمات داخلية شفهية أو مكتوبة لا تعبر عن أي تعاقد يذكر أو يذكّر بأية منظومة حقوقية حداثية، كون الإعلام حداثي بالضرورة.
إعلام «دولة» يؤدي إليها، كما يؤدي إلى تفاعلات جدلية تفضي إلى مشاركة أعضاء المجتمع في صناعة التحسين والتقبيح المعبرين عن المصالح العليا لمجموع الأعضاء، وهذا ما يشارك في صناعة الإرادة المجتمعية، التي تزعم «الدولة» التعبير عنها وأيضاً تمثيلها في منتديات مصالحها، وهنا الامتحان الحقيقي «للمؤسسات» الإعلامية، لإثبات نفسها على أنها تعبر عن الإرادة المجتمعية، أم أنها مجرد أجهزة وظيفتها الترويض والإخضاع، ومن ثم الصمت، بما يعاكس تعريف الإعلام نفسه، وبذلك تنتفي عنها صفة المؤسسة كجزء من «دولة»، لتصير جهازاً كجزء من سلطة، قبل أن تتحول إلى حالة من الندم، عندما تنفضح المعلومات المسررة بفعل غير بريء، وغير مجاني، حيث المجتمع سيدفع الثمن، وهنا يبدو تكرار ممارسة هذا النوع من الإعلام، هو وصفة سحرية للكوارث.
في «الدولة» لا يوجد شيء أسمه معارضة، المعارضة هي في وجه الحكومة، وعلى الدولة حمايتها كما تحمي المولاة، فالكل وطنيون أمام القانون، ولا احتكار للوطنية بين مواطنين، ومن متفرعات دور الإعلام هو شيطنة المعارضة، بحيث تتطابق الدولة مع الحكومة، وهذا خطأ تعاقدي مقصود، يجسد معنى السلطة الإجتياحية، لكل ما هو حداثي أو قانوني أو إبداعي، بمعنى تكريس الفوضى، بينما دور الدولة هو الانتقال من الفوضى إلى النظام، ضمن آليات إدارية تضمن المساواة، وهذا مستحيل على أية سلطة هاربة من استحقاقات الدولة الحديثة، مع أن الزعم أن حق الرقابة والمتابعة هو من حقوق المواطنة، وما الإعلام إلا تجسيد لهذا الحق، ومنعه أو ترشيده بوسائل غير إعلامية، إلا ترويض وقسر، وعليه فإن إعلان الحقيقة يصير لزوم ما لا يلزم، بحيث يمكن إدخاله في التفاصيل والمماحكات الوظيفية، دون إي اهتمام بجلاء الحقيقة.
الدولة ككيان مستمر و غير مؤقت ( مع إمكانية تطورها وتطويرها)، من مصلحتها رعاية الإعلام، بمعناه المعرفي المساند لوجود واستمرار الدولة التي تحميه حقوقاً وواجبات، من أجل تأدية دورها في إدارة المصالح المجتمعية، الذي لا دور آخر لها، وهو يكفي لضرورة وجودها، أما الحكومة فعليها الخضوع لمقتضيات الدولة، وتنفيذ ما عليها من مستحقات دستورية، وإلا تحولت إلى سلطة، لا هي بدولة، ولا هي بحكومة، والإعلام هو وسيلة الجزم والإعلان، بأن هذه الدولة هي هذه أو تلك.
نجيب نصير