تعليل مصدر القيم، أو المثل العليا بين المدرحية… وبقية النظريات الفلسفية

ــــ فلسفة أفلاطون: تقول بوجود عالم روحاني (العالم المثال) انبثق عنه العالم الحسي، بما فيه الإنسان.

وهذا يرتب أن يكوّن الوجود الروحاني مثلا عليا أو قيما، يدركها العقل بالتذكر. أي إنه يتذكر ما شاهدته النفس من هذه القيم قبل هبوطها إلى الأرض، إلي العالم الحسي، وتجسدها فيه،

فالأفلاطونية ترى أن العالم الروحاني هو منطلق القيم.

ــــ أرسطو: يعلم أن للوجود الحسي نظاما (ما ورائيا) ميتا فيزيائيا، أو روحانيا، يسعى الوجود الحسي إلى الاقتداء به من تلقاء ذاته،

ــــ التعليل الديني: يعلم أيضا أن القيم علوية، وهي صفات الألوهة، يوحى بها إلى البشر، ليلتزموا بمسلكية معينة تجاهها، دون محاولة فهمها، فصفات الألوهة فوق طاقة العقل.

ــــ المدرحية: ترى أن العقل هو منطلق القيم، هو الذي يكتشفها ويحددها، ولا وجود لها بدونه، والعقل ــ لكونه هبة الخالق العظمى للإنسان ــ هو الذي يكيف الوجود طبق مثال يرسمه هو باستخلاصه من طبيعة الوجود

ــــ النظرية الطبيعية: ترى أن الإنسان يرسم قاعدة سلوكية تدعى ٠(تقنية السعادة ) تنطلق من اتباع الميول الطبيعية، وترى أن القوى الحياتية في الكائن البشري ـــ بما ينتج عنها من لذة ـــ هي أسمى ما في الإنسان ، واللذة هي غاية الوجود ( أبيقور ) . ويتبع هذه النظرية تعليل آخر هو التعليل النفعي الذي يرى أن القيمة هي ما من شأنه أن يفيد المرء إفادة مباشرة.

ــــ المدرحية: ترى أن لدى الإنسان نزعة إلى الكمال، وهي جوهرية في الطبيعة البشرية، وأن اللذة الحسية وسيلة وليست غاية. إنها حافز يدفع بالطبيعة البشرية إلى أسمى، ومقياس تقيس به الحياة سلامتها من أفاعيل الفناء، أي أنها برهان على إن الحيوية الطبيعية ما زالت فاعلة.

ــــ التعليل العلمي: يعاكس سائر التعاليل التي جاءت قبله فيرفض أن تعزى القيم إلى الغيب، أو إلى الطموح الإنساني إلى الكمال، أو إلى الأعراف والتقاليد، ويحاول خلق قيم جديدة تتقيد بنواميس العلوم الطبيعية كالبيولوجيا والسيكولوجيا.

ــــ المدرحية: تأخذ على هذا الموقف إغفاله جوهر الطبيعة الإنسانية، فالنواميس الطبيعية التي تعتمدها النظرية العلمية في إيجاد القيم تنطبق على المعطيات المادية، الكمية، لا على الإنسان. وهي تغفل الطموح الإنساني إلى المثال والكمال. الإنسان هو الذي يطمح إلى تطوير الوجود، وتطوير ذاته إلى الأحسن والأفضل.

وهناك مواقف أخرى من القيم، تتمثل بالتنكر لها، انبثقت من فلسفات أخرى:

ــــ كالسفسطائية: التي تناقش كل معرفة، وبدافع من حب النقاش، تحاول إثبات مقولة ما ونقيضها أيضا.

ــــ والشكوكية: التي تنكر على العقل ادعاءه المقدرة على إدراك الحقيقة.

ــــ والوجودية المادية: التي تدعو إلى اتباع هوى الإرادة، والتفلت من نظام القيم.

ــــ والفلسفة الحسية: التي تعزو قوى الوجدان إلى مؤثرات الحواس المركبة.

ــــ المدرحية: ترى أن القيم تصدر عن العقل، والعقل هو الشرع الأعلى للإنسان، إذ أنه جوهر الطبيعة البشرية.  والإنسان المجتمع هو العاقل بالفعل، ولا يكتسب الفرد عقلانيته إلا بتفاعله مع المجتمع.

بتعبير آخر: العقل هو جوهر الإنسان المجتمع ، وبالتالي هو جوهر الفرد عندما يتبلور وعيه ، فيعي ذاته، ويعي المعطيات الموضوعية بالنسبة لذاته ، ويتأمل الحالات الناتجة عن أفعاله، ويخضعها للقياس بمقياس الحقيقة، أي بإمكانية تفاعلها مع النواميس الطبيعية أو الكونية، وإمكانية التطوير إلى أسمى، فيفاضل بينها ويختار، مدركا النهج الذي يتيح له الأفضل

نخلص من هذه المقارنة بين الفلسفات السائدة والمدرحية إلى أنه: في حين أن تلك الفلسفات تحمل نظرة ثنائية إلى القيم، أي أنها تصنفها إلى روحانية ومادية … نجد أن المدرحية وحدها تنظر إليها نظرة توحيدية، انطلاقا من نظرتها إلى الحياة ككل، إلى وحدة المادة والروح، فالقيم مادية روحية (مدرحية ) كما هي الحياة .

بدري حجل