كثر في الآونة الأخيرة الحديث عن ممر داوود والتوسع الذي يعمل على تحقيقه العدو الصهيوني في كياناتنا بدءاً من سوريا إلى لبنان والعراق. وهو مشروع يمضي به رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو قدماً مدعوماً من الولايات المتحدة الأميركية. مشروع توسعي تسعى إليه «إسرائيل» بحجة أن مساحتها صغيرة ينبغي توسيع مساحتها الجغرافية من خلال تهجير الفلسطينيين من غزة والضفة الغربية، والتوغل أكثر في سوريا ولبنان وضم مساحات، وبالتالي، ونتيجة هذا التوسع، تصبح الدول المجاورة لها كيانات صغيرة، فيما تغدو هي «الدولة الأكبر» في هذه المنطقة.
المسؤولون الصهاينة يرددون بشكل مركز كلاماً عن الفيدرالية في سوريا، أو عن إقامة دويلات أو تكريس مناطق ذات حكم ذاتي. ويقوم «جيشهم» من أجل ذلك بعمليات عسكرية تزيد من التوغل في الأراضي السورية لاسيما في الجنوب السوري وإحكام السيطرة عليه تمهيداً في مرحلة لاحقة إلى التوسع باتجاه الساحل السوري.
حرب «إسرائيل» لن تقف عند غزة أو لبنان، بل ستطال المنطقة ككل، فحلمها هو الوصول إلى نهر الفرات عبر مشروعها الكبير «ممر داود ». إثر قيام نظام جديد في سوريا بقيادة أحمد الشرع سارعت «إسرائيل» إلى توجيه ضربات مكثفة أستهدفت تجريد الدولة السورية ومؤسساتها وجيشها من مقدرات أمنها، واستباحت الأرض السورية ودمرت أكثر من 80٪ من مقدرات الجيش السوري، كما توسعت في احتلالها لمزيد من الأراضي السورية بالسيطرة الكاملة على سفوح جبل الشيخ والجولان. وبدأت تتحدث بقوة عن مشروعها التوسعي الكبير والذي يسمى «بممر داود» الذي يمر عبر الأراضي السورية للوصول إلى حدود العراق وإلى نهر الفرات تحديداً، تحقيقاً للنبوءة التوراتية المزعومة بمملكة داود.
وأطلقت على توغلها داخل الأراضي السورية اسم عملية (سهم باشان) الذي يرمز وفق معتقداتهم إلى مملكة يهودية كانت قديماً في منطقة جنوب سوريا، وهي منطقة زراعية خصبة بالمياه العذبة تمتد من جنوب دمشق، وحتى حوض نهر اليرموك وسهل حوران، ومن جبل الشيخ غرباً إلى جبل الدروز شرقاً.
من الأهمية بمكان الإضاءة على مشروع «ممر داود» الذي يتحدث عنه الصهاينة، وتدعمه السياسة الغربية. الممر يربط الكيان الصهيوني بالفرات، ويطوّق الحدود العراقية. يبدأ من شواطىء البحر المتوسط مروراً بالجولان ودرعا والسويداء والرقة ودير الزور والتنف ( مكان تواجد القواعد العسكرية الأميركية حالياً) حتى الوصول إلى نهر الفرات، ما يعني أن جزءاً كبيراً من تلك القواعد العسكرية الأميركية موجودة بالأصل على طول هذا الممر. وبطبيعة الحال سيكون الممر تحت إشراف أميركا وقواعدها في المنطقة. وفي حال تحقق ذلك، سيؤمن ل«إسرائيل» السيطرة الكاملة على مناطق واسعة تصل إلى الحدود العراقية السورية، وسيُساعد على قيام دولة درزية في جنوب سوريا، ودولة كردية في شمال سوريا حيث سيلتحم التمدد الكردي المدعوم من أميركا بالتمدد «الإسرائيلي»، وبالتالي سيخلق ذلك محوراً تتمكن فيه «إسرائيل» من الوصول إلى نهر الفرات، وسيلتقيان في منطقة التّنف.
كل ذلك ينذر بتغيير ملامح المنطقة، وهو أمر خطير جداً لن ينفع بعده البكاء على أطلال منطقة مشرذمة وموزعة بين إثنيات ومجتمعات ودويلات عرقية. ووسط هذه الأوضاع التي تعصف بالمنطقة، يتحرك الكيان الصهيوني بخطى ثابتة نحو تحقيق حلمه التوسعي، مستغلاً حالة الانهيار التي عاشتها سوريا خلال السنوات الماضية. وقد يصبح مشروع «ممر داوود» حقيقة ما لم يقاوم شعب منطقتنا وقواه الفاعلة هذا المخطط التدميري، ويعيد الأمور إلى نصابها.
في كانون الأول من عام 2024، توغلت «إسرائيل» في القنيطرة وجبل الشيخ ودرعا، مما أدى إلى تدمير 70 إلى 80 في المئة من القدرات الاستراتيجية السورية، وشلّ القوات الجوية والبحرية بالكامل. بالتزامن مع ذلك، استغلت تل أبيب حالة الفوضى والانقسامات الداخلية. وساهم التغيير المفاجئ الذي حصل في سوريا في جعل الكيان الصهيوني أمام فرصة ذهبية لتعزيز نفوذه في الجنوب السوري، حيث تحرك بسرعة لاستغلال الانهيار الحاصل لصالح مشروعه التوسعي.
ثمة أهداف عدة لهذا المشروع الذي تعمل «اسرائيل» لتحقيقه، أولها السيطرة على الموارد الطبيعية، خصوصاً النفط والغاز في دير الزور والرقة، الهدف الثاني هو إضعاف الدول المجاورة وعلى رأسها سوريا والعراق وتركيا، مع إبقاء إيران تحت التهديد الدائم، والهدف الثالث يتمثل في خلق واقع جيوسياسي جديد، يمنح الكيان الصهيوني نفوذاً واسعاً في قلب المنطقة تحت غطاء أميركي مباشر، أما الهدف الرابع من هذا الممر فهو إنشاء طريق استراتيجي يربط «إسرائيل» مباشرة بالمناطق الكردية في سوريا والعراق، ما يعزز التعاون بين الطرفين ويفتح مجالات جديدة لنقل النفط والأسلحة وتعزيز النفوذ. كذلك سيفتح «ممر داوود» مجالاً جديداً لنقل النفط والغاز من كردستان العراق وشمال سوريا إلى «إسرائيل» عبر البحر المتوسط، ما يعزز استقلال الكيان الصهيوني في مجال الطاقة ويقوّي علاقته مع الأسواق الأوروبية.
السؤال الذي يطرح نفسه هو هل سيتحقق هذا المشروع كما تخطط له «إسرائيل»؟ العارفون يشيرون إلى عقبات في وجهه، منها:
-المقاومة المحلية في الجنوب السوري والتي لم تخضع بالكامل للنفوذ الإسرائيلي.
-التدخل التركي المحتمل، ذلك أن نجاح «ممر داوود» سيشكل تهديداً مباشراً لأمن تركيا القومي لا سيما في ظل التمدد الكردي المدعوم إسرائيلياً.
-يتطلب تنفيذ ممر داود تخصيص عدة مليارات الدولارات من الموارد المالية والاقتصادية. ولا يمكن حالياً للكيان الصهيوني توفير مثل هذه المبالغ بسبب المشاكل الاقتصادية الحادة التي يواجهها بسبب الحرب.
-إنشاء الممر الذي يبلغ طوله عدة مئات من الكيلومترات، يتطلب إقامة قواعد وقوات عسكرية مع دعم جوي ودفاعي لضمان أمن الطريق والسيطرة عليه. وفي الوضع الحالي، الذي يواجه فيه الكيان الصهيوني نقصاً في المعدات وجيشاً منهكاً ومتعباً بسبب حرب غزة، من المستحيل عملياً تخصيص قوات وبنية تحتية عسكرية لهذه المهمة، وبالتالي سيواجه هذا الأمر صعوبة في التحقيق.