الفرد مجرد امكانية إنسانية

في سياق شرحنا لمقولة سعاده (الفرد مجرد إمكانية انسانية) لا بد ان نعتمد المنهجية التالية:

  • اولاً: شرح المصطلح بطريقة فلسفية.
  • ثانياً: عرض الفهم العقائدي للمصطلح.
  • ثالثاً: عرض وقائع مثبتة علميا “وموثقة تدعم الفهم العقائدي للمصطلح

اولاً في المصطلح: (في الامكان)

أ – الامكان في الفلسفة والمنطق هو الحالة التي لا تكون القضية فيها صحيحة دائماً وتحت أي ظرف، ولا تكون كذلك خاطئة دائماً وتحت اي ظرف (تناقض)، أي أن القضية الممكنة لا تكون صحيحة بالضرورة او خاطئة بالضرورة.

ب – طبيعة الممكن الوجود، أو ما هو موجود بالقوة.

ج – ارسطو يقول: الامكانية ليست وجوداً بالمعنى الصحيح، يستنتج أن الفرد ينطوي على إمكان انساني، بمعنى ان لديه امكانية ان يكون او يصير اي شيء ضمن نطاقه الإنساني، أي ان ينتقل من حالة ممكنة التحقق الى حالة قد تحققت – اي أصبح فعالية أي أصبح نجماً، وكما يمكن ألا يتحقق ذلك، وبالتالي تتهالك هذه الامكانية الانسانية دون ان تصبح فعالية.

ثانياً: في عرض الفهم العقائدي للمصطلح

يقول سعاده: الانسان في واقعه لا وجود له خارج عمليات الاجتماع، فالإنسان الفرد هو من جهة شيء لاحق للمجتمع تاريخيا، ومن جهة ثانية فهو لا يشكل بحد ذاته سوى امكانية انسانية. (نشوء الامم – الفصل الرابع – صفحة 90. شروح في العقيدة صفحة )172 ويقول: فالاجتماع صفة ملازمة للإنسان في جميع اجناسه، اذ اننا حتماً وجدنا الانسان وفي أية درجة من الانحطاط او الارتقاء وجدناه وجدناه في حالة اجتماعية.  (الاعمال الكاملة – الجزء الثالث – الفصل الرابع    ص 37). إذا كان الامكان بالمعنى الفلسفي كما ورد أعلاه هو الحال التي لا تكون فيها القضية صحيحة دائماً ولا تكون كذلك خاطئة، إذا كان الأمر كذلك، فيعني ان هناك ثمة شروط يقف على تحققها حصول الإمكان وتحققه، وأيضا ًعدم حصول هذا الامكان.

   الفرد البشري الذي ينطوي على إمكان انساني، هو مشروع انسان ليس له ليتحقق الا ان يتكامل انساناً في المجتمع – اي إذا أصبح انسان – مجتمع. لأن المجتمع نفسه في كليته وشموله، تحقيق للذات الانسانية. (النظام الجديد – ابريل نيسان – 1948 ص 21). فاذا كانت الامكانية ليست وجوداً صحيحاً بنظر ارسطو فذلك لأنها لم تتحقق، وتحققها في تجسيدها، أي انتقالها من صفة للفرد الى فعالية انسانية هي المجتمع. ما نريد اثباته من خلال تفسيرنا لمقولة سعاده بان الفرد مجرد امكانية انسانية هو التالي: تصح مقولة سعاده بأن الفرد مجرد امكانية انسانية لا تتحقق الا في المجتمع.

إذا أثبتنا أن الفرد بخروجه من المجتمع وانعزاله التام عن علاقاته الاجتماعية يعيده الى طور حيواني بعد أن يكون فقد بهذا الخروج كل مضمونه الإنساني، ولأجل ذلك سوف نعرض ما اثبتته التجربة الفعلية والمقاربة العلمية معاً بحالتين اثنتين:

الحالة الاولى: فتى غابات اوفيرون

في أواخر القرن الثامن عشر واثناء ظهور البوادر العملية الاولى لفهم التطور العقلي والانفعالي للإنسان، عثر بعض القناصة على طفل في 12 سنة من العمر يجوب غابات اوفيرون، خارج مدينة باريس – فرنسا، وكان الطفل لا يتحرك الا على يديه ويطلق اصواتاً غير مفهومة تصدر عادة عن حيوانات المنطقة ويهاجم بأسنانه واظافره من يقترب منه. عندما عرض على «فيليب بينيل» 1745-1826 وهو من مشاهير الاطباء النفسيين الفرنسيين وشخص الطفل على أنه: حالة تخلف عقلي عميق غير قابلة للتحسين. لكن تلميذه (ج. م. س) «ايتارد» رأى أن شدة التخلف العقلي عند الطفل لم يكن لها سبب الا انعزاله عن المجتمع الحضاري وحرمانه بالتالي من تكوين استجابات اجتماعية يتعلمها الاطفال الاخرين لتعرضهم المستمر للمثيرات التي تولدها. وقد نشر «ايتارد» في سنتي 1801 و1807 ورقتان تعبران عن خيبة أمله لإخفاقه في تعليم الطفل (طفل اوفيرون) الاعتماد الكامل على نفسه. الا ان الاكاديمية الفرنسية للعلوم أجمعت على ان الطفل أحرز تقدماً ملحوظاً عن الحالة التي وجد عليها، فقد تعلم المشي منتصباً وأصبح ينطق كلمات بسيطة، ويتعامل مع الافراد المحيطين به بأسلوب أكثر تحضراً. حصل كل هذا مع انه كان متخلفاً عقلياً، وبقي (أوفيرون) على مرتبته الحيوانية. (الفت حقي: ثقافة الطفل، مجلة عالم الفكر، المجلد العاشر، العدد الثالث ص 53). (فيليب بينيل) طبيب فرنسي قام بدور محوري في تطوير اسلوب نفساني أكثر انسانية في التحفظ على رعاية المرضى النفسانيين وهو الاسلوب المسمى اليوم ب: «فيليب بينيل» والإنسان يكتسب ممن يحيطونه أكثر العادات والآراء …ويستقي من اخلاقهم وعاداتهم، ولا يستقيم له البقاء، الا بمعايشة بيئة اجتماعية رضيها أم لم يرضها، وأرضته أم لم ترضه. (روح العروبة – عبد اللطيف شرارة طبعة ثانية – مؤسسة ناصر للثقافة ص – 22- 23).

الحالة الثانية: قصة حقيقية لبحار أسكتلندي يدعى (ألكسندر سيلكيرك) تحطم قاربه بالقرب من احدى جزر تشيلي وعاش وحيداً لمدة أربع سنوات. سردت مجلة بعض التفاصيل المهمة عن الحياة التي عاشها ألكسندر سيلكيرك في جزيرة (ماس تييرا) وذلك نقلاً عن مذكرات الرجل الذي وجده في الجزيرة وأخرجه منها، أي القبطان البريطاني (وودس روجرز) للأشهر الثماني الاولى: كانت الأكثر قسوة اذ عانى سيلكيرك من الكآبة والرعب بعدما وجد نفسه وحيداً تماماً في مكان مقفر، بسبب زحف أسود البحر الى الشاطئ للتزاوج، دخل سيلكيرك الى عمق الجزيرة فوجد كثيراً من حيوانات الماعز التي اصطادها … والتي أمنت له وجبات غذائية …… استعمل سيلكيرك القصب في بناء كوخين واحد للطعام والطهي، وآخر للنوم والاستراحة. تعلم ألكسندر سيلكيرك كيفية التعايش مع وضعه الجديد بحسب الامكانيات المتوفرة

وخلال سنة عاد الى ممارسة الانسان في العصر الحجري. وفقاً لما اورده (وودز روجرز). لم يكن كلامه (سيلكيرك) يفهم الا بصعوبة كبيرة (أربع سنوات حياتية يفقد لغته) وحتى بعد عودته الى أوروبا، فان سيلكيرك لم يتمكن من التأقلم جيداً مع الحضارة الاوروبية بعد تلك الفترة التي قضاها منعزلاً في تلك الجزيرة..

   في التعليق: الحالة الأولى: طفل لم يحدث ان عاش الى الثانية عشرة من عمره في مجتمع انساني، هذه السنوات حولته الى كائن يتصرف تماماً كما تتصرف الحيوانات التي عاش بينها، وهو تصرف غريب تماماً عن الانسان.

نستنتج من هذا المعطى ان الانسان (الفرد البشري) الذي ينطوي على امكانية انسانية تراه يتدهور الى مستوى الحيوانات بمجرد خروجه من المجتمع الذي فيه ومنه يكتسب مهاراته الانسانية وتحقيق انسانيته. ورغم ما بذل المعالجون النفسيون وهم في قمة الهرم في مجال المعالجة النفسية لم يستطيعوا اعادة (طفل اوفيرون)

الى كنف الانسانية رغم موروثاته عبر والديه من التطور الإنساني، وهذا يثبت مقولة سعاده بأن الانسان مخلوق اجتماعي …. لا يقوى على الحياة بمفرده، وذلك ناتج عن نقصان في تركيبه، لا يعوضه الا اندماجه في المجتمع الانساني، الذي هو بحد ذاته ليس الا تحقيقاً للإنسان نفسه. (النظام الجديد-ابريل نيسان 1948 ص21).

   كما ان سعاده بقوله: المجتمع نفسه في كليته وشموله هو تحقيق للذات الانسانية (المرجع اعلاه ص 21) كونه قد كشف علمياً وتجريبياً عن حقيقة هي: ان في المجتمع وفي المجتمع نفسه تتكون الانسانية، وخارجه لا مجال للفرد الا التدهور نحو الحيوانية، هذا (طفل اوفيرون) يقول تقرير اطباؤه: وبقي طفل اوفيرون على مرتبته الحيوانية.

اذن في الحالة الأولى: فإنها أكثر تأكيداً على صحة مقولة سعاده من الحالة الاولى من حيث ان (طفل اوفيرون) لم يعش كثيراً في المجتمع الانساني وبالتالي، وان كان قد اثبت صحة ما ذهب اليه سعاده، انه خارج المجتمع لا يمكن ان يكون انساناً، فإنه لم يعرف اصلاً الحياة الانسانية.

اما في الحالة الثانية: فان سيلكيرك عندما انعزل في الجزيرة كان بعمر 28 سنة وكان بحاراً ماهراً فإذا بأربع سنوات فقط تدهور الى:

  • اولاً: لم يعد يتذكر لغته.
  • ثانياً: لم يستطع التأقلم مع الحضارة الاوروبية، وهنا لا بد من التوقف عند سرعة التدهور الى الحيوانية من جهة، وعدم القدرة على استعادة المهارات الحضارية، التي كان قد اكتسبها على مدى 28 سنة والمتمثلة بعدم الانسجام مع الحضارة الاوروبية، اضافة الى فقدانه لغته.

هذه التجربة الانسانية التي قدمناها، تثبت ان الخروج عن الاجتماع فناء بالمعنى الانساني – الحضاري واستطراداً بالمعنى الفيزيائي، لأنه يستحيل على الفرد ان يستمر خارج الجماعة فتتطلب تربية الاطفال مساعدة مستمرة من بقية اعضاء العائلة والجيران، فتربية انسان تحتاج الى قبيلة لذلك فضل التطور اولئك الذين بمقدرتهم تكوين روابط اجتماعية. (العاقل لوفال نوح هراري – تاريخ مختصر للنوع البشري، ترجمة حسين العبري – وصالح بن علي الفلاحي – دار منجول للنشر- طبعة ثالثة 2021 – ص 25.)

 ولا بد من القول، ان البشري ما قبل العصر الحجري، لم يتحصل له ان يترفع الى رتبة الانسان HOMO SAPIENS لولا تنمية وتزخيم علاقاته في جماعات أهلته لأن يكتسب قدرة التفكير ف: ” منذ اجيال طويلة موغلة في القدم ظهر الكائن الذي يسمى الانسان الحكيم (العاقل) هذا المخلوق المتأثر في الزمان كان لابد ان يسيطر على الارض، لا يكف عن تنمية علاقاته بالعالم الخارجي في نفس الوقت الذي اخذ ينتظم فيه في جماعات (متحدات) ظلت تتسع وتتعقد يوماً بعد يوم ……. اخذ يبتعد عن اصوله المتواضعة الاولى وظل يمعن عنها بعداً فبعداً”(jean Edmondcyrus  Rostand : l”homme)

في الخلاصة: أظهرت لنا التجربتان الواردتان أن:

أ – الانسان يكتسب انسانيته في المجتمع ببطيء تراكمي، ويخسرها خارجه بسرعة قياسية!

ب – الانسان خارج المجتمع كائن محكوم عليه ب: 1- التدهور السريع من مرتبته الانسانية الى الحيوانية 2 – التقهقر في الحيوانية والولوج الى قعرها.

3 – الفناء الجسدي

ج – لا يمكن ان يولد أفراد خارج مجتمع، لان الفرد – الانساني مخلوق بطبعه الاكتساب، والاكتساب معناه ان هذا المخلوق يولد منعدم الوعي والحركة تقريباً، وبالتالي كما اوردناه أعلاه بحاجة الى جماعة، بل الى قبيلة.

د – من الوجهة التاريخية، لم يحقق الانسان انسانيته خارج (الاستجابات الاجتماعية).

هذه الامكانية الانسانية شرط تحققها وجود الفرد في المجتمع، وبدون ذلك تزول هذه الامكانية ويزول صاحبها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *