ربما كانت تجربة «الدولة»، من أكثر التجارب تكراراً في عالمنا العربي، فقد تم تجريب الكثير من النماذج المعقولة، وغير المعقولة، وأغلبها ذهبت إلى مآزق وجودية دفع ثمنها الإنسان، من دون معنى حقيقي للتضحية، من دون إنجاز تنموي إن كان على صعيد الإنتاج، أو على صعيد تطوير «الدولة» كتكنولوجيا لإدارة المجتمع و ظلت « الدولة» تراوح في اللامكان، مغطاة بسواتر من السرية تلغي العلاقة التبادلية بينها وبين الجماعة الإنسانية، التي تستكثر عليها «الدولة» المعرفة بفهلويات الإدارة، التي تحولت هي نفسها، إلى إدارة الأزمات، كموضوع وحيد، يتم تدويره في كل مرة، تسقط سلطة وترتفع غيرها، في ظل نفس الثقافة الحقوقية، التي أوصلت «الدولة» الناس إليها، بواسطة إدارتهم كأزمة لديها.
لما نزل نحن الشعوب العربية، غارقون في «حوارات» تعريف الدولة، تارة بالسلاح والدم، وتارة بالخصوصية، وتارات أخرى كثيرة، بالتعامي عن التعريف العالمي للدولة كتكنولوجيا في خدمة الناس، ما يجر التعامي عن نجاحات هذه التجارب الأخرى في إدارة المجتمعات، مما يجر الشعوب غصباً عنها، كي تقبع في دائرة ما قبل المجتمع، بحيث تغرق بجدل عقيم عن ماهية «الدولة» المطلوبة، وإعتبار معيقات وجودها كأمر واقع، بدلالة المؤيدين، وما يسمى مجازاً الأكثرية، وربما الأغلبية، وهي أكثرية ما لم تكن أكثرية سياسي وبالمعنى السياسي المنظم، هي أغلبية زائفة أو مزورة، والإثنان يقودان إلى ذات الهادم عبر التأجيل المستمر، لإستحقاقات وجود «دولة»، ليصبح المجتمع نفسه مؤجلاً حتى يتم تأهيله، ومن ثم النظر في إستحقاقه لـ«دولة» ما.
الدولة تولّد مجتمع، والمجتمع يولد دولة، شرط أن تضاف لاحقة، «حديث» أو «عصري»، أى كلا الحالين، وهذه اللاحقة، تعني المجال المعرفي الذي تدور فيه هاتين المفردتين، الدولة و المجتمع، على أساس أنهما تكنولوجيتان، محدثتان قابلتان للتطور ولإرتقاء كما كل تكنولوجيات الدنيا، وليستا مجرد تصريف لغوي، يجب على الجماعة البشرية الخضوع لمعناهما المختار من قبل السلطات، والقبول بالتأجيل الدائم لإستحقاقهما، ما يربي المجتمع على القبول المؤقت لوجود كل شيء وأي شيء، طالما الأمر الواقع يفرض تعريفهما كما تشاء سلطاته، ومن هنا تبدو المراوحة في المكان، هي النتيجة المضمونة لكل الأطراف، إذ ليس بالإمكان أحسن مما كان، والإمكان هو فقط الأمر الواقع، على الرغم من وجود نوافذ وشرفات تطل على العالم وتجاربه، لكننا عاجزون عن معالجة الأمر.
في بيئة شبه لها أن هناك «دولة ومجتمع»، ليس لدى السلطة، إلا الوعد بمستقبل زاهر للبلاد والعباد، مع إشتراط عدم وجود عصا سحرية بيد أي واعد، فالأمر متروك للتجريب، وهناك تجارب خطيرة وأساسية تحت أعين «الدولة والمجتمع»، يمكن اعتبارها كنماذج. آليات دؤوبة ومصرة على تدمير المجتمع وبالتالي الدولة، ومع الإجماع والإتفاق على خطورتها وضررها، إلا أنها تترك حرة في أفاعيلها، حتى إبتلاع المواطنة، كتعريف حقوقي لسكان الوطن، وتركهم ليصيروا إلى عباد في بلاد.
الطائفية
إنها النموذج الثقافي الأكثر شيوعاً، والأكثر تثريباً، والأكثر تملصاً من شبهتها، فهي تهمة وممارسة يومية في نفس الوقت، الجميع يتبرأ منها ويمارسها، لكنه وعلى الأقل لا يدعو إلى تجريمها ( كجريمة كراهية مثلاً)، فالجميع يتجاهل إرتباطها الوثيق بالدين وتراثه، وفي نفس الوقت منزهة عنه، كما أنها الوسيلة الأولى للمحاصصة السياسية، وعليها تقاس الكفاءة المطلوبة لتولي المسؤليات غير المحاسب عليها، وهذا مثال ليس إلا، فالمخطىء والفاشل يلجأ إلى طائفته لتحمية، فهو يمثلها، بحيث لا يكون الموضوع هو محاصصة «عادلة» بين الطوائف، أو طلب التمثيل المتكافىء، بل هو إنقسام إجتماعي بواسطة الطائفة، التي هي عضو في الإجتماع البشري، الذي يعيش في ظلال سلطات تمارسها كأمر واقع نهائي غير قابل للتنمية.
لا يمكن عزل الطائفية عن الكراهية، الجريمة التي لما نزل نتجاهلها، دون تقنين، فهي بنية زئبقية متملصة، وتحتاج الى «دولة» معاصرة حصراً، لتضبط معايير وقوعها، وهنا تكمن مصلحة الطائفية وأهلها، في قطع الطريق على الدولة المعاصرة، التي تحاسب على هكذا نوع من الجرائم. وهي دولة تفصل الدين عن الدولة والقضاء بالضرورة، إذا لا دولة معاصرة دون هذا الفصل إذ تتحول إلى مجلس ملي يدير أزمة المحاصصة، ما يدخل البلاد في الفوات التنموي، فلا تطال، لا بلح اليمن، ولا عنب الشام.
عادة ما تتطور الطائفية، إلى إنقسام أكبر، يسمى بالمذهبية، وهي فصل جديد، في كتاب الطائفية، مشتق من وصفة الطائفية نفسها، والمذهبية بدورها سوف تنقسم إلى طرائق ونحل، تكفر الواحدة الأخرى، وتجعلها غير صالحة لمعالجة أمور الدنيا، كونها خارجة أصلاً عن فهم «الحقيقة» والتصديق بها، حيث يخرج الأمر برمته عن السياسة والتدبر، إلى رحاب الغيب الذي يتحول الى ساحة مماحكة، تتحول الى حرب دنيوية، فاقدة المآل التكليفي لتكنولوجية الدولة. لتصير الدولة المزيفة إلى مليشيا أكثر صدقاً من أصحابها، فاقدة الجدوى من وجودها والتفكير بها..
( الغيتّو) وهو أبشع أنواع الفصل العنصري، في المجتمعات التي ترنو إلى قيّم عليا تعينها على النهوض، والطائفية تصنع الغيتّو وتصفع به الإجتماع البشري، فالأحياء ( أو القرى) المسيحية،، وتلك المسلمة، أو الشيعية أو الدرزية، واضحة ولا تحتاج إلى غطاء تنظيري في تثريب الطائفية والتملص منها، فهي إما شخص مطرود من قبل أغلبية تضايقه أو تعتدي عليه، أو مجموعة تختار مكاناً لا تقبل فيه غريب، وفي الحالين، نحن أمام مرض الكراهية إذا لم نقل جريمتها، حيث تتمزق الهيئة الإجتماعية القائمة على المصالح، وكذلك هيئة الدولة المديرة لهذه المصالح، والتي تفضل إبقاء الحال بما هو عليه وتتجاهل مهمتها التربوية في تكريس الإندماج كقيمة من قيم البشرية العليا، فينتج عن هذا، فعالية الجهل بالآخر، المحملة بشتى أنواع الخوف والتوجس والكمون، منتجة بذلك إستعداداتها الدفاعية المستنفرة دوماً ضد الآخر المجهول أيضاً، ويتكامل هذا البناء بالوعي السلبي الناتج عن معلومات لا يمكن صرفها معرفياً إلا بالعنف، أو المكاسب عنوة بما يشبه ثقافة الغزو، فيتولد لدينا إجتماع بشري يضمر العدوان للآخر ولا يتعاطف معه، في حرب مضمرة أو معلنة، دون مصالح.
الميليشيا
تبدو الطائفية ذريعة مضمرة لتأسيس الميليشيات، أو ما يمكن تسميتها آليات الدفاع الذاتي، أو الهجوم المحق، ففي ظل الطائفية، لا أحد يثق بآليات الدفاع العامة كالجيش والشرطة، بما فيها السلطة نفسها، مما كانت الشعارات المرفوعة، ومهما كان واقع الجيش واضحاً أو مجهولاً، فكل يريد أن يحتمي من إعتداء ما مجهول، لدرجة الحرب الإستباقية، إن كانت عن طريق التهويل والتلويح بالقوة، أو عن طريق أجهزة المخابرات العنفية، التي تصادر دستورية قرارات إنشائها، ومع التقدم في الزمن، تظهر على هذه الميلشيات مظاهر الدولة الخفية المتحكمة والمحتكرة للعنف، تنافس الدولة على العوائد وتوزيع الثروة دون أن تكون مسؤولة أما أية جهة، ولا حتى أمام ضميرها، فالميلشيات تكون منزوعة الأخلاق، لإنها بتركيبتها البنيوية والثقافية، من خارج السياق المعرفي لمفهوم الدولة، ولقد رأينا ذلك عملياً، في دول مثل السودان وسوريا ولبنان واليمن إلخ، ومهما طال الزمن فالإنشاق لا بد حاصل مع السلطة ( الدولة)، وكذلك مع الشعب، وهذا ما يدفع أثمانه الإنسان الذي لم تتح له الفرصة كي يكون مواطناً فقط وقط، فالمسألة هنا تقع في عمق التأسيس لعملية حدوث المجتمع والدولة، متعاكسة مع نوايا الثورات التي تعلن نواياها بهذا الخصوص، ولكنها تتجاهل فعل الميليشيا الخفي في البناء الإجتماعي، حيث تستطيع الميليشيا، أن تربي مجتمعاً مزيفاً من النفاق والفهلوة التنظيمات السرية والعنف، بمقاصد تكتيكية مدمرة للإستراتيجيا، كون فعل الدولة هو بناء المستقبل، وليس إجهاض الحاضر بإمكانياتة التي لا يمكن التعويل على غيرها. فالوطن هو أبناؤه المنتجون، وترويضهم عبر ترويعهم، يحولهم إلى كائنات غبية وتنابل بلا مبادرة أو إبداع.
الحرية هي من تجوهر الأفعال والأفكار أو ترديها، فما هو صالح سيتبرعم وينمو في بيئة لا خوف فيها أو منها، ربما تكون هذه الأفكار رومانسية أو خيالية، ولكن عكسها هو الواقع الممارس والمجسد، وهو ما أوصلنا إلى هذا الويل، مع أن هناك أمم وشعوب مارست هذه «الرومانسية» بكل حرية ووصلت إلى ما وصلت إليه، لتتحول إلى أنموذج يمكن الأخذ به أو عنه، فالمسافة التي تفصلنا عن التقدم هي تلك التي نقيسها نحن عن أقرب أنموذج ناجح، فلا خصوصية لنا من هذه الناحية، فالعالم يتقدم ولن ينتظرنا، وربما يبتلعنا دون أن ينتبه لوجودنا، كما تم إبتلاع المواطنة المتساوية ذات الكرامة، أمام أعيننا وصمتنا لإننا مشغولون بلعن الطائفية و.. ممارستها.
نجيب نصير