الأسطورة، كانت الوسيلة المبكرة التي عكست توق الإنسان إلى المعرفة، وإلى محاولة فهم العالم، كما عكست أسلوب الإنسان في الرّد على تساؤلات ملحّة حول الصّعوبات التي جابهته بها الطّبيعة والكون من حوله؛ حتّى صارت الوعاء الفكريّ الّذي خرج منه الفلسفة، والأدب، والفن، والحكمة والطّقوس والأعراف والعادات وحتّى الّتقاليد.
ونظراً لما للأساطير من تأثير واضح على حياة الشّعوب ولما لها من انعكاسات على المجتمعات ومسارها الحضاريّ، فقد عملت كلّ مجموعة بشريّة في سياق تطوّرها التّاريخيّ على تجسيد تجربتها وذلك حسب الوسط البيئيّ الذي عاشت فيه، وحسب انفتاحها على باقي الشّعوب ومنها طبعاً أسطورة سومر. [1]
تمتاز الأساطير السّومرية بقدمها وأصالتها قياساً، غلى باقي الأساطير الأخرى. فقد كانت بلا أدنى شكّ في البداية شفاهيّة وغير مدوّنة. ثم بدأ السّومريون بتدوينها. إذ إنّ أقدم الأساطير المدوّنة وصل الينا مكتوباً وباللّغة الأكادية تعود إلى حدود 2400 ق. م.[2]
بعد هذا التعريف الموجز للأسطورة، نعود الى عنوان بحثنا حول الحب وجذوره التاريخية، حيث يصادف يوم 14 شباط من كل عام للاحتفال بمناسبة يوم الحب. فما هو الحب؟ وما هي جذوره التاريخية؟
الحب، كقوة اجتماعيه وثقافية، هو أحد أعظم المحركات في التاريخ البشري. رغم أن عيد الحب ينسب عادة إلى قصة القديس فالنتاين[3] من خلال العصر التاريخي الوسيط. إلا أن البحث في الجذور التاريخية لهذه الظاهرة، يكشف ارتباطها الوثيق بأساطير أقدم، تعود الى حضارات بلاد ما بين النهرين (العراق اليوم) وحضارات المشرق القديم (لبنان، الأردن، فلسطين، سورية)، حيث تهدف هذه الدراسة التاريخية إلى تتبع نشأة فكرة الحب المقدس، من الطقوس السومرية للزواج الإلهي إلى المفاهيم الفلسفية، والدينية التي ساهمت في تشكيل نظرتنا الحالية للحب.
كما سنتناول عملية تطور عيد الحب من طقس ديني إلى ما نشهده اليوم من احتفالية تجارية.
تقسم هذه الدراسة إلى أربعة فصول هي:
الفصل الأول: الأسطورة السومرية للحب المقدس «إنانا ودي موزي»
الفصل الثاني: انتقال الأساطير بين بلاد ما بين النهرين والحضارة الغربية «أدونيس-ديموزي»
الفصل الثالث: الحب بين الفلسفة والدين – «السيد المسيح ودي موزي»
الفصل الرابع: الحب في الثقافة العربية الإسلامية «مجنون ليلى- دي موزي»
تهدف هذه الدراسة إلى تفكيك مركزية الأدب العالمي ومحوره الحضارة الغربية، أو أوروبا، وإثبات أن الحب ليس اختراعاً يونانياً أو عربياً، بل هو إرث مشرقي.
تكمن إشكالية الدراسة بكيفية نجاح أسطورة الحب المشرقة، تحديداً السومرية والذي يزيد عمرها عن 7000 سنة في تشكيل وعيّ الشعوب من اليونان إلى الصحراء العربية، رغم انقطاع التواصل؟
بناء الفرضية بإن أسطورة إنانا ودي موزي هي « الشيفرة الأصلية – Original Code لكل قصص وحكايات الحب في العالم خاصة المأساوية منها والتي انتشرت في العالم عبر:
1 – الطقوس الدينية كجسر ثقافي.
2 – الترجمة الشفهية عبر قوافل التجارة.
3 – اللاوعي الجمعي للإنسان الذي يبحث عن معنىً للوجود عبر الحب.
الفصل الأول: الأسطورة السومرية للحب المقدس «إنانا ودي موزي»
1 –الحب سرّ الخلود
«اليوم قد قضى زوجي الحلو، زوجي قد قضى
اليوم قد قضى فتاي الحلو، فتاي قد قضى
لقد مضيت يا زوجي الحلو إلى زرع البواكير
لقد مضيت يا فتاي الحلو إلى زرع الأواخير
قد مضي زوجي إلى الزرع ولكنه قتل بين الزرع
قد مضى فتاي يطلب الماء ولكنه أسلم هناك إلى الماء»
نص غزلي مليء بالمشاعر الجياشة تلقيه إنانا إلى معشوقها دي موزي، فكيف ردّ دي موزي عليها؟
«أنت خمري المبهج يا أحلى عسلي
يا فم… (كلمة غير مترجمة عن اللوح الآساسي) أمها الطلي، يا طليتي
نظرات عينيك تسحرني تعالي يا أختي الحبيبة»[4]
أذاً يمكننا الاستنتاج بأن الحب في الحضارة السومرية، لم يكن مفهوماً شخصياً فحسب، بل كان مرتبطاً بالخصوبة والاستمرارية الكونية. كانت إنانا[5]، إلهة الحب والجمال، تُجسد الشغف الذي لا يعرف الحدود، وكانت علاقتها بدي موزي [6]إله الرعي والخصوبة، تجسيداً للاتحاد بين الذكر والأنثى كضرورة لدوام الحياة.
كيف هي طقوس الزواج المقدس؟
كان الزواج المقدس بين الملك والكاهنة، التي تمثل إنانا، أحد أهم الطقوس السومرية. حيث لم يكن مجرد احتفال دنيوي، بل كان يُعتقد أن هذا الاتحاد يضمن استمرار دورة الحياة حيث يهب إله الأرض خصوبتها. اما الملك في هذه الطقوس، لا يكون مجرد حاكم سياسي، بل يمثل دي موزي على الأرض، الرجل الذي يُعيد بعشقه وتجسيده للإله دورة الحياة إلى مجراها الطبيعي.[7]
هذه الطقوس، التي تُقام مع بداية كل عام، لم تكن رمزية دينية، بل كانت ترافقها أناشيد الحب الي تنشدها الكاهنات، حيث نقرأ في النصوص السومرية مقاطع تفيض المشاعر والعواطف ومنها هذا النموذج:
«أيها الملك الحبيب، دي موزي العظيم، دعني أضمك إليّ مثل الكرمة التي تعانق الشجرة، دع حبنا يروي الأرض كما ترويها الأمطار الأولى»[8]
هذه الكلمات لم تكن مجرد شعر غنائي، بل كانت إيمانا بأن الحب الحقيقي هو القوة الي تروي الأرض، وتجعلها تنبض بالحياة.
2 – الحب والتضحية في الفكر السومري
الحب فداءً:
رغم أن قصة إنانا ودي موزي تبدأ بعشق لا حدود له، إلا أنها تنتهي بمأساة تُجسد مفهوم التضحية في الحب، لأنه عندما قررت إنانا النزول إلى العالم السفلي إلى مملكة شقيقتها إريشكيال[9]، كانت تدرك أن الحب وحده لا يكفي لمواجهة قوانين الموت، حيث عبرت الإلهة سبع بوابات، وفي كل بوابة تفقد جزءاً من عظمتها، حتى وصلت إلى شقيقتها عارية تماماً بل وضعيفة، يمكن ملاحظة أن هذا النزول أشبه برحلة رمزية، حيث يتجرد العاشق من كل شيء ليصل في النهاية إلى حقيقته العارية أمام القدر.
ولكن المفاجأة الكبرى كانت عندما عادت إنانا من العلم السفلي، إذ لم تجد دي موزي في حداد عليها، بل كان جالساً مستمتعاً في قصره. هنا، تحول الحب إلى صراع، وحكمت إنانا على حبيبها بالنزول إلى العالم السفلي بدلا منها.[10]
3 – الحب ودوره في التوازن الديني والاجتماعي:
الحب في الفكر المشرقي لم يكن مجرد عاطفة فردية، بل كان حجر الأساس في بناء المجتمع والحفاظ على التوازن الكوني. نعم في الفكر المشرقي، كان الملك لا يُعتبر شرعياً ألا إذا نال «البركة الإلهية» والتي كانت تُمنح له من خلال طقوس الزواج المقدس مع الكاهنة الكبرى. هذا يعني أن الحب كان قوة سياسية، وليس فقط عاطفة شخصية.
من هنا رأينا كيف أن علاقة إنانا ودي موزي لم تكن مجرد علاقة عاطفية، بل كانت تمثل صراعاً بين قوتين متكاملتين فإنانا، التي تجسد القوة الأنثوية الجامحة، تحتاج الى دي موزي الذي يمثل الاستقرار والخصوبة، ولكن في الوقت ذاته لا يستطيع أحدهما أن يهيمن على الآخر بالكامل، ولهذا كان لا بد من التضحية والتوازن.
في هذا السياق نرى تأثير الأسطورة في الأدب السومري، حيث كانت النساء قوى فاعلة في العلاقات، وليس مجرد أطراف خاضعة. كان هناك إشادة بالمشاعر، ولكن في الوقت ذاته تحذير من الغرور والتسلّط كما يمكن أن نرى في تصرفات دي موزي وإنانا. هذا التوازن بين الذكر والأنثى انعكس في المجتمع، حيث لعبت المرأة السومرية دوراً مهماً في الملكوت والملكية، وكان يُنظر إلى العلاقة الزوجية كعلاقة تكافؤ أكثر مما نراه في الحضارات اللاحقة.[11]
وفي نهاية الفصل الأول نقول: أذا كان عيد الحب اليوم مجرد مناسبة لتبادل الهدايا، فإن الحب في الفكر السومري كان مسألة حياة أو موت، قضية توازن كوني، وسر استمرار الحضارة. كانت قصة إنانا ودي موزي تذكيراً دائماً بأن الحب ليس دائماً سهلاً، لكنه القوة التي تعيد تشكيل العالم في كل مرة.
يتبع الجزء الثاني أدونيس – دي موزي
[1] نجا حماده – جزء من رسالة الماستر – الجامعة اللبنانية- الأسطورة السومرية وتأثيرها على الحضارات القديمة – 2022
[2] الماجدي، خزعل – الميثولوجيا السومرية – دار الرافدين – بيروت – 2018 – ص: 35-67
[3] القديس فالنتين 175- 273 م هو قديس روماني اسمه يعني القوة او الصحة يحتفل باسمه اليوم ب 14 شباط من كل سنة منذ العصور الوسطى
[4] الشواف، قاسم – ديوان الأساطير – سومر وآكاد وآشور – الموت والبعث والحياة الأبدية الكتاب الرابع – – ص: 84 – بيروت 2001
[5] هي إلهة بلاد ما بين النهرين المرتبطة بالحب والجمال والجنس والخصوبة والحرب والعدالة والسلة لاحقاً عرفت باسم عشتار
[6] هو ديموزي او تموز او آدون عند الكنعانيين ويعني في السومرية ابن إله الماء العظيم وهو إله سومري من بلاد ما بين النهرين
[7] كريمر، صامويل نوح – التاريخ يبدأ من سومر الألواح الطينية تحكي قصته – شيكاغو – 1956 – ص:246-250
[8] جاك بوتيرو- إنسان سومر – دار الساقي – 2010 – ص: 179-185
[9] هي شقيقة إنانا وهي ملكة أو أله العالم السفلي
[10] الياد، مرسيا – التاريخ المقدس والأسطورة – برينستون – 1957 – ص: 112-118
[11] الياد، مرسيا – التاريخ المقدس والأسطورة – برينستون – 1957 – ص: 112-118