ج– التزام الأحزاب والحركات السياسية.
نعني بالاحزاب والحركات السياسية تلك التي تحمل في عقيدتها وسلوكيتها روحية هيئات المجتمع المدني الأخرى وصفاتها وأهدافها، أي باختصار، الاحزاب والحركات السياسية التعليمية-التثقيفية، التي لا تسعى مباشرة في حراكها إلى الوصول أو الاستيلاء على السلطة، أو العمل مداورة لاستبدال سلطة بسلطة اخرى. انها الاحزاب والحركات الملتزمة، فعلا، بحقيقة الشعب ومصلحة الشعب والتعبير عن ارادته الحرّة وأهدافه السامية المثالية، وقيامها بوظيفة الرقابة والاصلاح والتغيير باتجاه تطوير المجتمع وتحديثه. وهذه الاحزاب هي في تكوينها الروحي والبنيوي، جماعة مدنية ـ شعبية، الانتماء فيها إلى الوطن، والولاء فيها إلى الوطن. والعمل في صفوفها يتموضع في بلورة قيم الحرية والعدالة والمساواة والنهضة بالشعب، كل الشعب، نحو مراتب الريادة والعز والكرامة، ومواقع الاحترام والتقدير من الشعوب الأخرى، التي تسير في الاتجاه نفسه.
يقول روبرت ماكيفر: «.. كان من المحتم أن يظهر تنظيم الرأي بالأحزاب بعد ان ظهرت الديمقراطية الشاملة، واعتمدت مبدأ التمثيل الشعبي، وأصبح تنظيم الاحزاب ضروريا.. فكان التنظيم الحزبي ايذانا بالانتقال من التمثيل الحكومي إلى التمثيل الديمقراطي…»(1) الشعبي الملتزم بمبدأ الحرية ومبدأ الرقابة، والا فان الهيئات المدنية، تسقط في فخ التبعية للاحزاب والحركات السياسية المتناحرة على السلطة، وبالتالي تفقد هذه الهيئات دورها، ويقع المجتمع المدني في حالات التخلف والانحطاط والانقسام والصدام والتفكك والانهيار الكلي.
د- صفة التخصص والتنوع في «المجتمع المدني».
يعتبر التخصص أبرز ما توصل اليه العقل البشري، في عصرنا الحاضر، كما يعتبر التنوع في العقائد والأفكار وكذلك في النشاطات، من أبرز الظواهر الاجتماعية العصرية، واذا تزاوج مبدأ التخصص مع مبدأ التنوع في «المجتمع المدني»، تفتحت أمامه آفاق الحراك الاجتماعي الشامل للشؤون الحياتية بكاملها وما يترتب عليها من خلق آليات جديدة في التطوير تتجاوز السلطة، وتتمكن في لحظة معينة أن تفرض نفسها عليها. واستكمالا لهذه الفقرة في معنى التخصص والتنوع في المجتمع المدني المعاصر، لا بد ان نلقي نظرة على المصالح في المتحد الراقي حيث نجد المصالح جميعها تتنوع وتتعين بتنوعها وتؤدي إلى انشاء جمعيات من كل نوع منها، تجمع كل واحدة منها الأفراد العاملين لمصلحتها. والحقيقة ان المصالح لا تتعدد وتتعين الا في المجتمعات الراقية، وفي هذه المجتمعات تتحدد المصالح، وجمعياتها تتميز وتتنوع بحيث تجعل وحدتها أتم وأوضح. فالمصلحة هي طلب حصول ارتياح النفس وهي غرض الارادة، فالمصلحة والارادة هما قطبا المجتمع فواحدهما سلبي وهو المصلحة والآخر ايجابي وهو الارادة، فالمصلحة هي التي تقرر العلاقات جميعها والارادة هي التي تحققها. وبديهي ان لا ارادة حيث لا مصلحة. وكلما نمت الحياة، ازدادت المصالح التي تولد الاجتماع وقلت المصالح المفرقة. فالأساس الاجتماعي للمصالح واحد، هو خير المجتمع، وهو وحده يوجد علاقة المصلحة الاجتماعية الثابتة. ولا بد لنا استكمالا لهذه الفقرة من القاء نظرة على المصالح في المجتمع.
المصالح في المجتمع ثلاثة أنواع:
النوع الاساسي وهو يشمل المصالح الحيوية والمصالح النفسية (العقلية):
المصالح الحيوية هي اولا: الجنسية، وجمعياتها العائلة في أشكالها. وثانيا: اللاجنسية، وهي ما تعلق بالغذاء واللباس والمدرأ وتؤدي إلى انشاء الجمعيات الزراعية، والصناعية، والتجارية، والصحية.
والمصالح النفسية، هي أولا: المنطقية من علمية وفلسفية ودينية وتهذيبية، وتتحد في الجمعيات العلمية والفلسفية والدينية والتربوية، وفي المدارس والمعاهد التهذيبية. وثانيا: الفنية، وتتناول جمعيات الرسم والدهان، والموسيقى، والتمثيل، والأدب. وثالثا: المصالح الخصوصية، وهي مصالح السلطة والجاه، والعملون لها ينشئون الأندية الخاصة والجمعيات العسكرية والقومية.
ثم تأتي المصالح الاقتصادية البحث، وهذه تتناول الجمعيات المالية والتجارية الكبرى والمصارف والشركات المتحدة وغيرها، والاتحادات التجارية وجمعيات المستخدمين وجمعيات المستخدمين الخ.
وتأتي في أرقى المراتب المصالح السياسية وأكبر جمعياتها الدولة، وتشمل جميع مصالح المتحد الأتم، الذي هو الأمة، ويتفرع من الدولة جمعيات أخرى أصغر منها تختص بالمتحدات، التي هي أصغر من الأمة وهي الحكومات المحلية للمناطق والمدن. وبعد الدولة نجد الأحزاب السياسية التي هي جمعيات تختص بمصالح الفئات. ثم تأتي الجمعيات السياسية للقيام على مصالح معينة. ثم الجمعيات القانونية والقضائية وغيرها. وهنالك ايضا المصالح الاجتماعية العمومية وهي تشكل جمعيات التعارف والصحبة وأندية السمر والتسلية البريئة أو المفيدة.
هذه صورة غير تامة من مصالح أي متحد راق، وهي على ما بها من نقص تمثل جليا بعد المرحلة بين مصالح الجماعات الفطرية والمجتمعات المتمدنة الراقية. وكلما ارتقى المتحد في ثقافته المادية والعقلية ازدادت المصالح المعينة التي من شأنها ترقية الحياة الجيدة وتجميلها(1).
هـ – مواكبة التقدم المعرفي والاستفادة منه.
شهد النصف الأخير من القرن الماضي تحولا نوعيا في نمو هيئات المجتمع المدني، والفضل في ذلك يعود إلى التقدم المعرفي، خصوصا على صعيد القفزة الهائلة في تطور وسائل الاتصال، مما ساعد هذه الهيئات على بناء آرائها استنادا إلى حقائق علمية، وباتت أكثر فعالية في مواجهة خداع السلطات السياسية الحاكمة. ويورد بسام ضو مثالا على ذلك، هو قضية «النوع الغذائي» المطروحة اليوم بشدة في الغرب، ولدى العديد من هيئات المجتمع المدني التي تتوالد كالفطر للاهتمام بهذا الموضوع، على مستوى مقاومة الاغذية المهجنة، ومكافحة الزراعة المهجنة، والتعديل الجيني، والتلاعب بالشجرة الوراثية، بل ان هذه الجمعيات ( كما في بريطانيا) فرضت على الحكومة اتخاذ اجراءات لحماية الأغذية ، بينما كانت الاحزاب السياسية تهمل هذه القضية..(1) وفي هذا الاطار، فقد اشار «تقرير التنمية البشرية العربية للعام 2002» إلى «بناء مجتمع معرفي» ، كان العنوان الثاني الكبير في مشروع «الشرق الأوسط الكبير» ، الذي أفرد فقرة خاصة لموقفه من «المجتمع المدني».
– «المجتمع المدني» في مشروع «الشرق الأوسط الكبير».
يلاقي مشروع «الشرق الأوسط الكبير» (2) اهتماماً ملحوظاً من قبل الأسرة الدولية عموماً، ولإقليمية خصوصاً، ويمثل «الشرق الأوسط» (3)، في هذا المشروع «تحديا وفرصة وفريدة للمجتمع الدولي. وطالما تزايد عدد الأفراد المحرومين من حقوقهم السياسية والاقتصادية في المنطقة، سنشهد زيادة في التطرف والارهاب والجريمة الدولية والهجرة غير المشروعة» كما ورد في مقدمة المشروع، الذي جاء فيه أيضاً: «ويمكن لمجموعة الثماني ان تتفق على أولويات مشتركة للاصلاح تعالج النواقص التي حددها تقرير الأمم المتحدة حول التنمية البشرية العربية عبر:
– تشجيع الديمقراطية والحكم الصالح
– بناء مجتمع معرفي
– توسيع الفرص الاقتصادية»
انطلاقا مما تقدم، يخصص مشروع «الشرق الأوسط الكبير»، فقرة خاصة لمعالجة موضوع «المجتمع المدني» ، يرى فيها أن أفضل الوسائل لتشجيع الاصلاح الحقيقي في الشرق الأوسط يجب أن تأتي من الداخل، أي عبر «المجتمع المدني» ، من هنا فقد قررت «مجموعة الثماني» أن تشجع على تطوير منظمات فاعلة للمجتمع المدني في المنطقة، وفق النقاط الأربع الآتية:
المجتمع المدني
أخذا في الاعتبار ان القوة الدافعة للاصلاح الحقيقي في الشرق الأوسط الكبير يجب ان تأتي من الداخل، وبما أن أفضل الوسائل لتشجيع الاصلاح هي عبر منظمات تمثيلية، ينبغي لمجموعة الثماني ان تشجع على تطوير منظمات فاعلة للمجتمع المدني في المنطقة. ويمكن لمجموعة الثماني أن:
– تشجع حكومات المنطقة على السماح لمنظمات المجتمع المدني، ومن ضمنها المنظمات غير الحكومية الخاصة بحقوق الانسان ووسائل الاعلام العمل بحرية من دون مضايقة أو تقييدات.
– تزيد التمويل المباشر للمنظمات المهتمة بالديمقراطية وحقوق الانسان ووسائل الاعلام والنساء وغيرها من المنظمات غير الحكومية في المنطقة.
– تزيد القدرة التقنية للمنظمات غير الحكومية في المنطقة بزيادة التمويل للمنظمات الحلية ( مثل «مؤسسة وستمنستر» في المملكة المتحدة أو «مؤسسة الدعم الوطني للديمقراطية» الاميركية) لتقديم التدريب للمنظمات غير الحكومية في شأن كيفية وضع برنامج والتأثير على الحكومة وتطوير استراتيجيات خاصة بوسائل الاعلام والناس العاديين لكسب التأييد. كما يمكن لهذه البرامج ان تتضمن تبادل الزيارات وانشاء شبكات اقليمية.
– تمويل منظمة غير حكومية يمكن ان تجمع بين خبراء قانونيين، أو خبراء اعلاميين من المنطقة لصوغ تقويمات سنوية للجهود المبذولة من أجل الاصلاح القضائي أو حرية وسائل الإعلام في المنطقة. ( يمكن بهذا الشأن الاقتداء بنموذج «تقرير التنمية البشرية العربية »).(1)
ويبقى أن نشير إلى خطورة مشروع «الشرق الأوسط الكبير»، الذي ترعاه الادارة الأميركية، وتستغله «اسرائيل»، لتأمين سيطرتها على المنطقة المعنية بهذا المشروع الخطير الذي يبدو في ظاهره مفيدا وفي باطنه كلّ الخطر على وجود أمتنا ووحدتها ومستقبلها، فهو مشروع تدميري، للعالم العربي، تمهيدا لاخضاعه لنفوذ الكيان الصهيوني وسيطرته العسكرية والاقتصادية.
يتبع.
(1) – روبرت ماكيفر: تكوين الدولة ، مرجع سابق ، ص 260.
(1) – انطون سعاده: نشؤ الأمم، مرجع سابق، ص 152-153
(1) – بسام ضو: نظرة في مميزات هيئات المجتمع المدني، مجلة فكر، العدد 87 مرجع سابق ص64.
(2) – مشروع الشرق الاوسط الكبير، اطلق على اسم المشروع الذي طرحته الولايات المتحدة الاميركية على الدول الصناعية الثماني المنعقد في حزيران 2004.
(3) – يشير «الشرق الاوسط الكبير» إلى بلدان العالم العربي، زائدا باكستان، افغانستان، ايران، تركيا و «اسرائيل».
(1) – مشروع الشرق الاوسط الكبير، مرجع سابق. مع الملاحظة ، اننا لم نتعرض للمشروع من زاوية نقدية، تثبت خطورته على أمتنا وعالمها العربي والمنطقة جمعاء.