في بداية كل عام جديد تقيم المفوضية الأوروبية حفل استقبال بمناسبة رأس السنة تدعو إليه السلك الدبلوماسي المعتمد لدى الاتحاد الأوروبي، فيكون مناسبة لإلقاء كلمة يتم فيها التأكيد على أهمية الدور الذي يضطلع فيه السلك الدبلوماسي في تدعيم العلاقات بين دولهم الأم والاتحاد الأوروبي، القائمة على تبادل الأولويات في مجال السياسة الخارجية والعمل الدبلوماسي. كما يشكل الحدث فرصة لرئيسة المفوضية لاطلاع السفراء والدبلوماسيين المعتمدين على آخر مستجدات السياسة الأوروبية العامة.
وفي محاولة للوقوف عند الكلمة التي ألقتها «أورسولا فون دير لاين،» رئيسة المفوضية الأوروبية، في السادس من شباط الجاري وعند عبارات هذا النص، وتحليلها من وجهة نظر أوروبية وأخرى غير أوروبية، إذ يتعذر علينا تسمية هذه الأخيرة بالعالمية لانعدام توافقها وتناسقها، لا يمكننا إلا استنتاج موقف أوروبي مميز قائم على اعتبارات خاصة تدخل في إطار مبدأ الشوفينية.
أورسولا فون دير لاين لا ترى الاتحاد الأوروبي جزءا لا يتجزأ من العالم، بل تراه طرفاً مستقلاً تماماً عن العالم ويحتل مركزاً منفصلاً عنه بالرغم من الصلات القوية التي تربطه به. ففي المنطق الأوروبي إن حقيقة العالم منفصلة عن حقيقته الخاصة والمميزة، وإن المبدأ الذي تبنى عليه العلاقات معه هو مبدأ المصالح الأوروبية. «علينا أن نتخذ قراراتنا…. بناء على صالحنا الخاص من خلال ما يبدو عليه العالم». كان حري بها أن تضيف «من خلال ما يبدو عليه العالم بالنسبة لأنظارنا» لكن ما هو واضح بين السطور غني عن الذكر والتأكيد. فالعمل السياسي والدبلوماسي، حسب نص الكلمة، يمثلان وسيلة لضمان استقرار وأمن ورخاء المواطن الأوروبي تماما كما يمثلان وسيلة لضمان استقرار وأمن ورخاء الشركاء الأوروبيين.
تفحصت النص كثيراً، وعبثاً، فلم أعثر مرة واحدة على فكرة تجمع العالم بأسره في مصير واحد، مصير البشرية، مصير الأمم المبني على احترام القوانين والحقوق كما يدعيه الاتحاد الأوروبي، فيتبادر إلى ذهني تساؤل عما إذا كانت حكومات كياناتنا المفككة تبني توجهاتها على مبدأ الصالح الغربي عامة والأوروبي خاصة أم إنها تعير صالحنا القومي أهمية ولو ضئيلة على سلم الأولويات.
تؤكد فون دير لاين في كلمتها على ضرورة نقل رسالة إلى شركاء أوروبا مفادها «إذا كان هناك من أمر يعني أوروبا، فستعمل هذه الأخيرة على أن يصبح الأمر نافذا….. إن مصالحنا غير مخفية…. وستعمل أوروبا على مساعدة الشركاء الراغبين في الاستثمار في المواد الأولية لأنه أمر سيساهم في ضمان أمننا الطاقوي». ما من مرة واحدة تم ذكر الصالح العام بشكل مطلق، بل صالح الشريك إذا عاد بالفائدة على الاتحاد الأوروبي. «إنها وسيلة لضمان، أولا وآخرا، ميزات للمواطن الأوروبي».
يظن متابع السياسة الأوروبية أن الاتحاد الأوروبي يتحرك حسب مفهوم ازدواجية المعايير كما اتُّهم به منذ بدء الحرب على غزة، وأن هذا المفهوم هو سبب التفرقة مثلا بين تعاطفه مع أوكرانيا أو مع القضية الفلسطينية. لكن الاتحاد الأوروبي في الحقيقة وفيٌ لمبدئه الخاص ولا يفرق بين أوكرانيا وغزة بل يعمل على ضمان مصالحه الخاصة. هذه المصالح الخاصة تترجم بالتضامن مع طرف ضد طرف آخر، حسبما تميل إليه دفة المصالح والثقل الذي يعيره إليها الاتحاد الأوروبي. فالصالح الأوروبي في قضية غزة يتجه نحو الكيان المعتدي، والصالح الأوروبي في أزمة أوكرانيا يميل إلى دفة المعتدى عليه.
موضوعان اثنان كبيران يهيمنان على القلق الأوروبي: الطاقة والسياسة التنافسية بالرغم من تفانيه للعمل على الملف الدفاعي الأمني والعسكري. فإذا كان الموضوع الأول قد أصبح مصدر قلق كبير منذ الأزمة الروسية الأوكرانية، فالثاني بات مصدر تشنج كبير في العلاقات الأوروبية الصينية والأوروبية الأمريكية.
من الممكن أن يرى بعض المتابعين والمحللين أن مصادر الطاقة التي تتمتع بها أمتنا جديرة بالاستحواذ على الاهتمام الأوروبي، وجديرة أن يعيرها نوعا من التضامن دون أن يتخلى عن الكيان المحتل. لكن الصالح الأوروبي لا يكتفي بوجود ثروات، بل يعمل على أن تساهم الأوضاع الإقليمية على استحواذه على هذه الثروات بشكل سهل ومتناسب مع اقتصاده. ففي هذا الإطار الاقتصادي يبدو الوقوف إلى جانب إسرائيل أمراً في غاية الأهمية إذ أنه يسهل على أوروبا ممارسة توجهها الخاص إقليميا. كما ويساعد الاتحاد الأوروبي على ضمان قوتها التنافسية أمام الخطر الأميركي المتمثل حاليا بزيادة التعريفات الضريبية والخطر الصيني المتمثل في ثورة الذكاء الاصطناعي.
الاستثمار في الطاقة هو ضمان الأمن القومي. الاستثمار في الهيدروجين والطاقة الخضراء ضمان لأمن أوروبا القومي. إنه المنطلق الذي على أساسه تبنى كافة التوجهات في عصرنا الحالي والسباق ما زال جاريا بين القوى العظمى في هذا المجال. كذلك إن الطاقة هي التي ستحدد وجهة السياسة التنافسية بين هذه القوى. لكن المشكلة لا تكمن فيمن يستحوذ على مصادر الطاقة أو المصادر المعدنية الخاصة لتطوير الذكاء الاصطناعي، محرك الصراعات التنافسية، بل إنها تقع في مبدأ المنافسة نفسه. فالاعتبار الأوروبي الذي يغذي السياسة التنافسية يتنافى ويتناقض مع المعايير الذي يروج له الاتحاد الأوروبي إذا اعتبرنا أنها معايير صالحة وسارية على العالم بأسره. لكنها معايير حقيقية وصحيحة فقط من المنظار الأوروبي نحو ذاته.
ما هي هذه المعايير والقيم التي تسمح للاتحاد الأوروبي بالتعامل مع حكومة الشام الجديدة، وأين هي هذه المعايير التي تسمح للاتحاد الأوروبي بالتعامل مع الكيان المحتل في حرب الإبادة التي مارسها ضد أهالي غزة، وضد الأراضي اللبنانية وأخيرا في السيطرة على أراض في الكيان الشامي. في الحقيقة إنها موجودة وراسخة أكثر من أي وقت مضى. إنها نفسها تلك المعايير الصحيحة والحقيقية التي تعزز من الصالح الأوروبي على حساب أمم ودول أخرى. إن نص كلمة أورسولا فون دير لاين واضح إذ قالت عند التحدث عن الشرق الأوسط «إنه من صالحنا الأساسي أن تعمل أوروبا مع شركائها على إعادة صياغة وتشكيل شرق أوسط جديد. يتوجب علينا أن نكون حاضرين. على الأرض».
وتنهي فون دير لاين كلمتها قائلة «إن أوروبا محظوظة بالاستناد إليكم (أي الدبلوماسيون الحاضرون) من أجل تنفيذ التزاماتها». لا يتعلق الأمر بأي التزام، بل بالتزاماتها هي.
هل كل هذا يعني أن أوروبا تعي ما تقول وأنها فعلا خارج إطار العالم الذي نعيش فيه. أو من الممكن أن يكون العَجَزُ أخلّ في ذاكرتها وقدرتها على التحكم بالمنطق والتحليل السوي. لربما صعُب الجواب على السؤال لكن ما هو مؤكد أنه مرض لا علاج له.
بدر الغساني