المتأسلمون والليبراليون وتجربة الحكم

يخادع المتأسلمون والليبراليون المزعومون بالقول ان الناس لم تجربهم في الحكم، ويشنون حملات دائمة على القوميين واليساريين الراديكاليين الذين عاشوا تجربة السلطة.

قبل دحض هذه السردية المتهافتة، لا بد من استدراكين:

الأول: بالنظر إلى تغييب الشروط الموضوعية التاريخية لقيام الثورة القومية الديموقراطية، إما وفق نموذج وستفاليا البرجوازي الأوروبي أو وفق النموذج الصيني والفييتنامي، وبالتالي استمرار المجاميع الطائفية والعشائرية ما قبل الرأسمالية بشكلها البدائي، لا وجود أصلا لحالة ليبرالية حقيقية تعبر عن برجوازيات مدنية، فالأدق الحديث عن صناعة الليبراليين في الدوائر الاستخباراتية، الأوروبية والأمريكية، وكذلك الدوائر الأكاديمية.

الثاني: وبحسب مهدي عامل، فما يمكن ربطه في الحقبة الرأسمالية في البلدان المتخلفة، ليس الدين نفسه، بل حالات طائفية لا تمارس في غالبيتها أية طقوس دينية، ولذلك بالإضافة للقوى السياسية الطائفية المعروفة في لبنان وغيره، لو أخذنا تركيا كمثال آخر لوجدنا أن هذا البلد الذي يتخذ من الإسلام غطاء لانعطافاته نحو أسواق الشرق بعد انسداد الأفق الأوروبي أمامه ليس بلدا إسلاميا بالمعنى البنيوي من حيث فلسفة السوق وسطوة البنك الدولي والسياحة بما في ذلك تجارة الجسد المرخصة، ناهيك عن موقع تركيا في حلف الأطلسي وعن علاقاتها القوية مع العدو الصهيوني بما في ذلك التنسيق الأمني والصناعات العسكرية.

أيضا فإن ما يسمى الصحوة الإسلامية لم تكن أكثر من استجابة لنشاط استخباراتي خارجي، ولا يخفى على أحد أيضا فيما يخص مجمل الحالة الأصولية التكفيرية، أنه منذ القرن التاسع عشر وهي صنيعة المخابرات البريطانية ثم الأمريكية كما يؤكد المؤرخ البريطاني، كورتيز في تناوله لهذه الحالة، من الحركة الوهابية إلى جماعة حسن البنا وجبهة النصرة والدواعش وحركة النهضة وغيرهم.

بعد ذلك، تعالوا نتمعن في الظواهر السياسية التالية، سواء لجماعات الأطلسي الأصولية أو الليبرالية:

  1. بالنسبة لجماعات الأطلسي الأصولية، فقد تمكنت من الوصول إلى السلطة في أكثر من بلد وقدمت نماذج غاية في التخلف والإجرام، فبالإضافة للظاهرة الأفغانية المروعة وآخر قراراتها منع الفتيات من الدراسة الجامعية، فقد قاد الإسلاميون في السوادان انقلابا دمويا حول أغنى بلد عربي وأفريقي بالموارد إلى بلد فاسد وفقير، فضلا عن الحرب الأهلية التي أدت إلى انفصال جنوبه وسقوطه تحت الوصاية الصهيونية، وعن التصدعات الأخرى شرقا وغربا، وعندما دخل النظام القديم المذكور حالة التفسخ، لم ينتج بديلا مدنيا وديموقراطيا أفضل حالا، بل تورط أكثر في علاقات علنية مع العدو الصهيوني.
    والحق أن هذه العلاقة لم تكن مفاجئة تماما، فالنميري منذ أن فتح السودان أمام الإسلاميين ولم يجد في الإسلام سوى قطع الأيدي والأرجل من خلاف، هو الذي أقام علاقة مع تل أبيب كان من ثمارها تهجير يهود الفلاشا، كما نتذكر أن حسن الترابي الإخواني (أبرز شخصية إسلامية في تلك الفترة) هو الذي أشرف على تسليم المناضل كارلوس إلى المخابرات الفرنسية ووافق على إعدام شيخ إسلامي مجتهد هو الشيخ محمود طه مؤسس جماعة الإخوان الاشتراكيين.
    وليس بعيدا عن الإخفاق في السودان، الإخفاق الكبير للإسلام الأطلسي في المغرب وتونس، والمصير الأسود الذي آل اليه الصومال بعد سقوط حكم زياد بري، كما يشار كذلك إلى المذبحة التي نفذتها المليشيا الأصولية في اندونيسيا وراح ضحيتها مليون شخص من أنصار الرئيس الأسبق، أحمد سوكارنو أحد قادة حركة عدم الانحياز.
  2. أما عن الليبراليين العرب من شاكلة حزب الوفد والأحرار الدستوريين، فقد شاركوا الحكم الملكي الفاسد في حكم مصر بين 1919 و1952، وكانت النتيجة اتساع دوائر الفقر والبطالة والفساد ناهيك بالسلاح الفاسد في حرب 1948 وبإطلاق النار أكثر من مرة على مظاهرات طلابية وعمالية، بل أنهم لم يلغوا قانون السوط الإقطاعي ضد الفلاحين.
    أما الصيغة الأكثر توحشا من الليبرالية العربية، فهي صيغة قوى التبعية التي أقصت الجانب السياسي التقليدي لليبرالية ممثلا بالديموقراطيات الشكلية، وحافظت على جوهر الليبرالية الحقيقي المتمثل بفلسفة السوق والتبعية السياسية المطلقة للمتروبولات الرأسمالية، أمثال: السادات ومبارك وبن علي وبقية منظومة التبعية العربية الرسمية.
  3. تعالوا نقارن بين تجارب “الشموليين” في الحكم وخاصة في مصر وسوريا والعراق والجزائر، وبين ربيع الأصوليين والليبراليين المزعومين:
    – مقابل عشرات القتلى في انقلابات (الشموليين) التي شملت البلدان المذكورة، فقد سقط في ربيع الإسلام الأطلسي والليبراليين من جماعات الثورات الملونة مئات الآلاف من القتلى بالإضافة إلى ملايين المشردين وتدمير بنى تحتية كاملة.
    إلى ذلك، وقبل أن يبرر أحد حجم الخسائر في سوريا مثلا خلال العشرية السوداء الأخيرة، نذكرهم على سبيل المثال أن الجيش السوري فقد 100 ألف شهيد عسكري لم يسقطوا بالتأكيد نتيجة الهتافات (سلمية سلمية).
    – تذكروا أيضا في البلدان الشمولية الإصلاح الزراعي والتعليم المجاني في كل المراحل والطبابة المجانية وازدهار الفنون والآداب والخدمات الرخيصة في قطاع الكهرباء والنقل والمياه والأسعار الزهيدة في الأسواق.
    – تذكروا سوريا الشمولية قبل عام 2011، الدين الخارجي أقرب إلى الصفر، ثقافة الإنتاج، الإصلاح الزراعي، التعليم المجاني، تصدير القمح والقطن، السياحة، مستويات التنمية، والحياة الكريمة لكل الطبقات، ومثلها الجزائر في عهد الرئيس بومدين وقبله بن بيلا، قبل أن تقع تحت سيطرة جنرالات الإسلام الأطلسي ثم العشرية السوداء الأصولية الإرهابية الدموية.
    – دققوا في نهايات القوى الشمولية أو أشكال الصراع ضدها: عدوان خارجي استعماري – صهيوني بمشاركة قوى الإسلام الأطلسي والليبراليين المزعومين من جماعات الثورات الملونة، تماما كما حدث مع مصر 1956 و1967، ومع العراق على دفعتين، ومع سوريا التي صمدت وردت الاعتداءات المتواصلة عليه بثمن باهظ للسيادة والكرامة الوطنية ورفض التطبيع والاستسلام للعدو الصهيوني.

د. موفق محادين