مشروع سعادة النهضوي

تُعتبر الطائفية أحد أبرز العوائق أمام نهضة الأمة ووحدتها، حيث وصفها أنطون سعاده بـ «الداء الفتّاك» الذي ينخر في أساسات المجتمع ويضعف تماسكه. إن هذا المرض الاجتماعي يُعزّز الانقسامات ويفتت الوحدة الاجتماعية عبر تعزيز الولاءات الطائفية والمذهبية، ما يؤدي إلى انكماش الطوائف على نفسها وابتعادها عن الروح القومية الجامعة. تتجلى مظاهر الطائفية في شتى مناحي الحياة، بما في ذلك السياسة والإدارة والتعليم والقوانين، حيث تُساهم في تكريس التمييز بين المواطنين على أسس دينية ومذهبية، مما يؤدي إلى انعدام المساواة ويمنع قيام ممارسة ديمقراطية فاعلة.

في مشروعه النهضوي، وضع سعاده مبدأ «وحدة المجتمع» كركيزة أساسية لتحقيق نهضة شاملة وحقيقية، إذ يرى أنه لا يمكن بناء أمة قوية وموحدة إذا لم يكن المجتمع موحداً توحيداً ثابتاً وراسخاً في داخله. ومن هنا، رفض سعاده كل أشكال التجزئة السياسية والاجتماعية التي تكرّس الفُرقة والانقسامات، مؤكداً على ضرورة تجاوز العصبيات الطائفية والمذهبية نحو روح قومية واحدة. واعتبر أن صحة الأمة وتقدمها لا يكونان إلا في الوحدة الاجتماعية التي بوجودها تضمحل الأحقاد والعصبيات المتنافرة والعلاقات السلبية وتحل المحبة والتسامح القوميان ويقوى الشعور القومي الموحّد لأبناء الشعب.[1] أما التجزئة والتفسخ والصراعات المذهبية والقبلية فتبعثر قوى المجتمع وتقود إلى هلاكه واضمحلاله. ومن المعروف ان التجزئة الحاصلة عطّلت حيوية الأمة وأدت إلى خسارتها أجزاء حيوية من وطنها كما سهّلت قيام وتمدّد الكيان الصهيوني الغاصب. يقول سعاده: «إن النهضة السورية القومية الاجتماعية نشأت لتقرب النفوس وتوحد الشعور والإرادة، ولتعلن ابتداء عهد جديد يحل فيه الاتحاد محل الافتراق، وتحظى النفوس بالخير والسعادة والطمأنينة»​.[2]

لقد نبّه سعاده إلى أن علاج الطائفية لا يكون فقط بإلغاء القوانين الطائفية، بل يتطلب استئصالها من النفوس وتنمية روح المواطنة من خلال عملية تثقيفية وسياسات تربوية وإعلامية تهدف إلى تعزيز الولاء للوطن بدلاً من الولاءات الفرعية. إن الوحدة الاجتماعية التي دعا إليها سعاده تتجسد في تكوين مجتمع موحّد الإرادة وخالٍ من الحواجز الاجتماعية – الحقوقية بين أبنائه ومحصّن بالعصبية القومية التي تحميه من أخطار الفتن الدينية والعصبيات الفئوية على أشكالها، حيث يتساوى جميع المواطنين في الحقوق والواجبات بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو العرقية. وبرأيه: إنّ وضع العصبية القومية موضع العصبيات الدينية والعشائرية أنقذ الحيوية السورية من فوضى التجزئة وأطلق قوة روحية عظيمة لا حد لممكناتها وأقام في المجتمع السوري نظام التعاون بدلاً من نظام التصادم الذي أسسته النهضة الرجعية، التي أُطلق عليها خطأ نعت «الوطنية»، وأحل مصلحة الأمة محل مصلحة الفرد، التي يقول بها النفعيون والرأسماليون ومحل مصلحة الطبقة التي ينادي بها الشيوعيون.[3] وأكد سعاده في كتاباته على ضرورة أن يكون في الأمة دولة قومية لا دولة دينية، تكون لكل أبناء الوطن وتقوم على مبدأ المساواة والعدالة الاجتماعية.

من جهة أخرى، يُؤدي التعصّب الطائفي إلى نتائج مدمّرة، فهو يخلق تباعد وعداوات وفتن بين أبناء الوطن الواحد، ويُشكّل أرضية خصبة لتدخلات خارجية تسعى إلى تمزيق نسيج المجتمع واستغلاله لتحقيق مصالحها. لذلك، يرى سعاده أن الحل يكمن في تكوين عصبية قومية صحيحة تُوحّد الشعب حول هوية قومية جامعة، تتجاوز الانقسامات المذهبية وتعزز التضامن الوطني، وتفسح المجال أمام تحقيق نهضة قومية قائمة على الوحدة والمحبة والتسامح. ويقول في هذا السياق: «لا يمكن أن تكون أمة واحدة إذا لم يكن هنالك مجتمع واحد، أي إذا لم تكن الهيئة الاجتماعية واحدة.»[4]

يشدَّدَ سعاده أيضاً على أن التجزئة التي فرضتها القوى الاستعمارية في سورية الطبيعية، من خلال تقسيم الوطن إلى كيانات سياسية منفصلة، لم تستطع أن تزيل حقيقة وحدة الحياة السورية ووحدة المصير المشترك. ويقول: «إن وحدة الحياة السورية أقوى من جميع عوارض الحدود السياسية»​[5]، مؤكداً أن الشعب السوري يبقى موحداً في تطلعاته ومصالحه على الرغم من هذه الحدود المصطنعة. ويؤكد سعاده أن هذا الارتباط العضوي بين مختلف المناطق السورية يحول دون قبول فكرة تجزئة الأمة إلى كيانات منفصلة، ما يبرز أهمية الوحدة القومية في مواجهة محاولات التفريق.

يمكن تلخيص رؤية سعاده في ضرورة الانتقال من الولاءات الكيانية والطائفية الضيقة إلى ولاء قومي شامل يُعبّر عن المصالح المشتركة والمصير الواحد للأمة، وذلك من خلال بناء نظام اجتماعي يعترف بمساواة المواطنين أمام القانون ويدعم تكافؤ الفرص بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والمذهبية. ويؤكد في إحدى مقالاته المنشورة في الزوبعة في بوينُس آيرس عام 1942: «إن جميع السوريين القوميين يؤمنون أنهم أبناء أمة واحدة هي الأمة السورية، تجمعهم عقيدة واحدة ومصلحة واحدة وإرادة واحدة. فهم جميعهم يريدون الجميع أحراراً متساوين في الحقوق والواجبات ويرفضون أن يكون بعض الأمة عبداً لبعض.»[6]

لتحقيق هذه الوحدة، يدعو الحزب السوري القومي الاجتماعي إلى إلغاء الحواجز الدينية والسياسية التي تُقسّم المجتمع، وإلى بناء ثقافة قومية تُعزز المحبة والتسامح والانتماء للأمة، بدلاً من الانغلاق ضمن طوائف وعشائر. إن الهدف النهائي هو توحيد الشعب تحت مظلة هوية قومية جامعة، تقف صامدة أمام محاولات التدخل الخارجي والإضعاف الداخلي، وتتمكن من تأسيس مجتمع نهضوي قوي، قائم على الوعي القومي الصحيح والإرادة الحرة. لذلك يقول سعاده: «نحن عقيدة ثقافية اجتماعية اقتصادية سياسية، نعمل لهذا المجتمع لتوحيده من جميع الوجوه.»[7]


[1] انطون سعاده، المحاضرات العشر، ص 100.

[2] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد السادس 1942-1943، «مهزلة استقلال لبنان».

[3] أنطون سعاده، المجلد الثاني 1935-1937، «شق الطريق لتحيا سورية».

[4] أنطون سعاده، المحاضرات العشر، ص 99.

[5] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثامن 1948 – 1949، وحاربنا.. لننقذ اللبنانيين!، كل شيء، بيروت، العدد 99، 18/02/1949.

[6] أنطون سعاده، المجلد الخامس 1941-1942، «العروبة كقزة إذاعية للمطامع السياسية الفردية».

[7] أنطون سعاده، المجلد الثاني 1935-1937، خطاب الزعيم في الكورة (صيف 1937).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *