لإنسان الأتم، مرتكز أساس للاقتصاد القومي في منظور سعاده

يتمايز فكر سعاده في الشأن الاقتصادي عن باقي المدارس الاقتصادية المُعاصِرة له في الشكل والمضمون. فمن ناحية الشكل، لم يَصُب سعاده اهتمامه بشكل مباشر على دور الدولة كما فعلت المدرسة الليبرالية التي قَيَّدَته إلى أقصى الحدود وكذلك المدرسة الاشتراكية التي أطلقته. كما ولم يحصر سعاده اهتمامه في تحديد السياسات الاقتصادية الملائمة كما تنافست على تعيينها المدرسة الكلاسيكية والمدرسة الكينيزية وتبعاتهما، حيث أن هذه السياسات قد تتبدَّل مع متطلبات معالجة الحالات الهيكلية منها والظرفية، ومع تبدل الظروف المحيطة بها في المكان والزمان.

إلا أن أهم ما تمايز به سعاده يَقع في خانة المضمون، حيث وضع المرتكزات التي يُبنى عليها الاقتصاد القومي بما يكفل تأمين الفعالية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية على حد سواء، الأمر الذي أخفقت في تحقيقه باقي المدارس الاقتصادية حتى الساعة، أقله في سدها الفجوة بين النظري المتقدم والواقع عند التطبيق. وأغلب المرتكزات التي تَقَدَّمَ بها سعاده لم يأتِ في إطار نظري ضمن مرجع بحثي متخصص، بل أتى في إطار محاضرات، مقالات أو خطابات قام بها سعاده في عديد من المواقع والمناسبات، تعَرََّض في كل مرة منها لشأن أساس في تحديد أطر التعامل بين المجتمعات وداخلها، بما يتوافق مع واقع الوجود البشري وتطور العقل الإنساني الحالي. كما وأن أغلب ما تقدم به سعاده لا يمت بصلة مباشرة إلى المفاهيم والمصطلحات المعهودة في علم الاقتصاد، إنما يحدد الحقائق التي يجب أن يبنى عليها الإطار السياسي الإجتماعي الاقتصادي السليم لبلوغ مرامي الرقي والرفاه والتقدم في الاقتصاد القومي. فهذه المرتكزات تنبثق مما كشفه سعاده عن حقيقة الوجود الإنساني الذي يحكم مصالح الأمم وعلاقة بعضها ببعض وشأن الأفراد وتحقيقهم لمنافعهم في داخلها.

فلكي يصح تحقيق المبدأ الإصلاحي الرابع القائل “إلغاء الإقطاع وتنظيم الاقتصاد القومي على أساس الإنتاج وإنصاف العمل وصيانة مصلحة الأمة والدولة”، الذي قد يعتقد خَطَاً البعض أنه يتضمن مجمل فكر سعاده حول مشروعه لتحقيق أسس الاقتصاد القومي، يجب أن يكون حصل الإدراك والوعي التام لحقيقة الوجود الإنساني المبنية على ركائز أساسية ومن أهمها حقيقة الإنسان الأتم.

ففي مفهوم سعاده، إن الإنسان الأتم هو المجتمع وليس الفرد، والأفراد هم مجرد إمكانيات يعطون مما فيهم من هذا المجتمع من مكتنزات لتجويد حياته وضمناً حياتهم. فبهذا المنظور الفلسفي، تعلو مصلحة المجتمع، بشخصيته المتكونة بتفاعل أجياله مع بيئته عبر العصور، على منفعة الفرد، وتطغى الحرية والحقوق المجتمعية على الحرية والحقوق الفردية، حيث أن الفرد هو قَيِّم على المقدرات الشخصية والممتلكات والثروات المادية الموضوعة في عهدته، وعليه بالتالي مسؤولية العناية والتصرف بها بما يخدم مصلحة المجتمع، صاحب الحق الدائم في هذه المقدرات والثروات. فبهذا الشكل، لا تتعارض منافع الأفراد في ما بينها في الاقتصاد القومي بل تتساوى أمام الواجب تجاه المجتمع وتتحد في عملية تحقيق الهدف الأولى الذي يعود بالخير على المجموع، ألا وهو مصلحة المجتمع بكل مكوناته الروحية والمادية. فحاصل النجاح الفردي، بفعل الإمكانيات الروحية والنفسية والإمكانات المادية المؤمنة للفرد في بيئته، يعود إلى صاحب الحق في هذه الإمكانيات والإمكانات الموضوعة بتصرف الفرد. فالحرية والمبادرة الفردية لا تؤدي بهذا الشكل إلى تفلت أخلاقي وثراء الفرد على حساب المجموع وما ينتج عنه بالتالي من تفاوت غير عادل في توزيع المداخيل، بل إلى فلاح المجتمع بأكمله في عملية إنتاج يمكن معها توزيع غناً لا توزيع فقر على المجموع. فالحرية والمبادرة الفردية، إن لم تنبثق من قاعدة أن الإنسان الأتم هو المجتمع وليس الفرد، تؤدي بشكل بديهي إلى ما أدت إليه من جشع المتمكّنين وبالتالي إلى التضارب بين المنافع الفردية وهدر الطاقات والموارد. أما الحرية والمبادرة الفردية المسؤولة والموجهة لمصلحة المجتمع لا تسمح بالتصرف المسيء بالإمكانيات والإمكانات التي يتمتع بها الفرد لتحقيق مكاسب فردية آنية على حساب المجموع الذي ينتمي إليه، بل إلى تفعيل النشاط الاقتصادي المجموعي بتحفيز الهمم وتكاتف الإمكانيات الفردية وتضافرها وتكاملها فيما بينها لرفع مستوى الأداء الجماعي جودةً وكمّاً، بما يكفل تفعيل عملية الإنتاج الكلي وتكثيف نِتاجها بما يعود بالخير على المجتمع بأكمله.

فبوَعي هذه الحقيقة يمكن وضع ما لزم من سياسات وإجراءات متاحة ومناسبة لمعالجة كل خلل طارئ على حالة راهنة بما يكفل احترام هذه الحقيقة وتطبيق مفاعيلها على أرض الواقع. فالسياسات والإجراءات ليست ذات استعمال عام، أو لها أهداف ونتائج مُوَضَّبَة ومعلبة بشكل مُطلَق ومُحَتَّم. فكل وضعيةٍ شاذة عن حقيقة “أن مصلحة المجتمع تفوق كل منفعة فردية”، تستوجب المعالجة بالوسائل المناسبة، كلٌّ بحسب سبب وحجم الخلل وطبيعته. فالسياسات والإجراءات لا تكتسب أهمية إلا بمقدار ما تقدمه من حلول ملائمة تحفز الأفراد على توظيف إمكانياتهم وإمكاناتهم لرقي المجتمع لينعم جميع أفراده وأجياله بمُقَدَّراته وخيراته الطبيعية وبِما تَكَافَلَ على إنتاجه الأفراد في عملية إنتاج يشارك فيها كلٌّ بحسب ما أوتي من إمكانية وإمكانات، والحصول على عائدات عمله كلٌّ على مستوى عطاءاته للمجموع. فالمبدأ الرابع من المبادىء الإصلاحية “إلغاء الإقطاع وتنظيم الاقتصاد القومي على أساس الإنتاج وإنصاف العمل وصيانة مصلحة الأمة والدولة”، والذي اعتمده سعاده لتحقيق الفعالية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية على حد سواء، لا يمكن تحقيقه إلا باحترام هذه الحقيقة المطلقة، وفهم العلاقة بين النظرة المجموعية والنظرة الفردية إلى الحياة التي رسمها سعاده في المحاضرة السادسة في الندوة الثقافية بأن “القضية هي قضية كل المجتمع لا قضية الفرد، لكل فرد منهم قضية تختلف عن قضية الفرد أو الأفراد الآخرين. القضية هي حياة المجتمع وقضية مصير المجتمع قضية ارتقاء المجموع أو انحطاط المجموع، قضية جمال حياة المجتمع لا قضية جمال حياة الفرد”.

فالوقائع التاريخية أكدت على فشل المدرسة الكلاسيكية في تركها للسوق تصحيح الخلل الحاصل من عدم احترام قاعدة توزيع الثروات حسب الإنتاج التي يقول بها أيضاً سعاده، حيث أن فرضية السوق التنافسية التامة هي غير واقعية في ظل اعتماد قاعدة الإنسان – الفرد مرتكزاً للإقتصاد القومي. فالحرية المفرطة المتاحة من خلالها للأفراد تؤدي إلى حال من الاستغلال والجشع وإلى سوق إحتكارية لا تنافسية، تنعدم معها ظروف احترام قاعدة الحق في العمل والإنتاج والحق في توزيع الثروات حسب الإنتاج. الأمر الذي يُحدِث تفاوتاً هائل في المداخيل ويطيح بالتالي بالفعالية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية على حد سواء. وإن رأت المدرسة الكينيزية في تدخل الدولة ضرورةً لضبط حال الأسواق، وإن حاولت صنوتها النيوكلاسيكية مراجعة النظريات الليبيرالية والركون إلى تدخل الدولة في حالات محددة فقط عند فشل آلية السوق وعند الإخفاق في تحقيق الحالة المثلى، فلم تنجح هاتين المدرستين، على أهمية طروحاتهما، في تحقيق مراميهما، حيث أنهما كمدرستين ناشئتين في صميم النظام الرأسمالي العالمي، اعتمدتا أيضاً قاعدة الإنسان – الفرد ركيزةً، مما جعلهما تغضان الطرف عملياً عن التوزيع الفعلي للمداخيل بحسب الإنتاج، معطيةً الأهمية لدور الفرد في تحقيق مصلحة المجتمع عبر إعطاء الفرد حرية مطلقة في التصرف والسماح له بتكديس الثروات لتمكينه من امتلاك وإدارة شبكة الشركات العالمية التي أمنت مصالح مجتمعه في الخارج باجتياحها الأسواق العالمية التي تهيمن عليها، حتى ولو أودى ذلك بمسألة العدالة الاجتماعية بين الأفراد أنفسهم داخل المجتمع الواحد أو بين المجتمعات فيما بينها.

كما وأخفقت الماركسية من قَبل هاتين المدرستين باعتمادها نموذجاً يقضي باللجوء المطلق إلى تدخل الدولة لتفادي صراع الطبقات نتيجة استغلال الرأسمالية لطبقة البروليتارية، فقضت على المبادرة الفردية وأقبعت معها البيروقراطية وأطبقت الطبقات الغنية على مواقع القوى في الدولة وأدارت شؤون الدول بما يخدم مصالحها الشخصية دون سواها. ففَشَل جميع هذه المدارس، وإن تضاربت وسائلها وأهدافها بالشكل، يعود إلى بقائها في النظري بعيدة عن واقع الوجود الإنساني وإلى انطلاقها من نظرةٍ ماديةٍ بحتة ومن قاعدة أن الإنسان الأتم هو الفرد وليس المجتمع. فأضحى الفرد هو الركن الأساس، في معادلة يصعب فيها تحقيق منافع الأفراد جميعها في آن، وإن وجد إطار يعمل فيه الفرد على تحقيق منافعه الشخصية ضمن عملية مشاركته بالقرار المجموعي أكان من خلال عملية الاقتراع التي أتاحها له النظام الديمقراطي للتعبير عن رأيه وتجيير القرار العام باتجاه منفعته الشخصية ضمن هذا المجموع، أم من خلال تدعيمه لمواقف الطبقة التي ينتمي إليها كما أقرت له به الماركسية وسيلةً لتغليب رأيه ومنافعه الشخصية أو الطبقية على منافع غيره من الأفراد والطبقات، في عملية وضع اليد على المقدرات وإدارة الشأن العام بما يخدم المصلحة الضيقة للطبقة التي ينتمي إليها وبالتالي منافعه الشخصية، وإن كان ذلك على حساب الاستقرار الاجتماعي والتقدم الاقتصادي. فلم تلامس جميع هذه المدارس حقيقة التطور البشري الذي أضحى فيها للمجتمع، الإنسان الأتم، شخصية مكتملة مكتسبة من تفاعل بنيه مع بيئته عبر العصور، يُقدم فيها للفرد الإمكانية والإمكانات ليعطي مما فيه من هذا المجتمع. بهذا المنظار، لم تعد منفعة الفرد تقتصر على سد رغباته الشخصية، لكي ينكب اهتمامه على تكديس الثروات لتأمينها وتأمين مستقبله خوفاً من المجهول، حتى ولو أتى ذلك على حساب غيره من الأفراد أوالطبقات، فيبقى بالتالي المجتمع يعيش في صراع دائم يستنفذ طاقات بنيه في معارك فردية وطبقية عبسية. بل أضحت منفعة الفرد مرتبطة ارتباطاً وثيقاً ومتلازماً مع مصلحة مجتمعه، إن لم تكن بالأحرى مصلحة المجتمع متداخلة في صميم منفعته الشخصية. فحصول الوعي لحقيقة هذا التلازم وهذا التداخل يُمَكِّن الفرد تقدير مدى أهمية اعتماده على حضن مجتمعه وبالتالي أهمية وضرورة رفده، من بعض مما أعطي له، بعناصر القوة التي تمكنه من تحقيق الفلاح والتقدم في معترك صراع الأمم في حفاظها على حقوقها وثرواتها، حيث أن القوة هي القول الفاصل في تحقيق الحق أو ضياعه.

نعم، لم تنجح هذه المدارس في كبح الجشع الفردي، اكان بتطبيق الديمقراطية أساساً للمساواة بين المواطنين أم بتطبيق أدق النظم الضريبية، أم بتغليب ميزان القوى بين الطبقات في ردم فوارق الدخل والثروات بين أفراد المجتمع وطبقاته، حيث اعتمدت الفرد أساساً في التحليل الاقتصادي. فعلَّبَت المدرسة الماركسية الأفراد في طبقات تعمل على تحقيق مآرب المنتمين إليها، واختصرت الكلاسيكية أفراد المجتمع بشخص فرد مثال (prototype) تُحَلّل تصرفاته وانشغالاته ومراميه، معتبرةً أن جميع باقي الأفراد يتشابهون معه في التصرف. فمع هاتين النظرتين، بقي شخص هذا الفرد منفصماً عن شخصية مجتمعه، واهتماماته بحت فردية، لا هَمَّ له سوى تحقيق مآربه الضيقة، في سوق اعتُبِرت نظرياً تنافسية، في حين أن الحرية المُوَلاة للإفراد باسم الديمقراطية، أو السلطة باسم صراع الطبقات، أعطتا الغلبة للمقتدرين في عملية منافسة غير سوية بين الأفراد عبر آلية السوق الحرة أو عبر صراع الطبقات التي ينتمون إليها، فطغى الجشع والاحتكار وتثنى لأفراد تحقيق مكاسب فردية على حساب باقي أفراد أو طبقات المجتمع.ففي حين لم تُدخِل أي من هذه المدارس، على أهميتها، مصلحة المجتمع على الأقل ضمن منفعة الفرد، بل أبقت الأولوية للفرد دون سواه وليس للمجتمع الذي يأويه ويمده بالإمكانية والإمكانات، قَلَبَ سعاده المعادلة رأساً على عقب، ووجَّه الإهتمام إلى المجتمع، الإنسان الأتم، وجعل منافع الإفراد جزءاً من مصلحة المجتمع، لا بل أنه جعل منافع الأفراد جزئية أمام مصلحة المجتمع، حيث إن فُقِدت أو هُمِّشَت مصلحة المجتمع، تقهقرت منافع الأفراد وتشتتت معها الإمكانيات والإمكانات، إما عبر نزاعات داخلية بين الأفراد والطبقات، أو عبر هزيمة المجتمع بأكمله في معترك الأمم على تقاسم المصالح والثروات والنفوذ. فأضحت مع سعاده منفعة الفرد جزءاً لا يتجزأ من مصلحة الأمة، إن غابت الأخيرة إضمحلت الأولى، وإن هيمنت الأولى غابت الأخيرة. فكان من البديهي في إطار هذه المعادلة أن تركن المنافع الفردية عند سعاده في مصلحة المجتمع، فيحقق الفرد منفعته الحقيقية حين تقع منفعته في صميم مصلحة المجتمع، التي تعود عليه بالنهاية دعماً لإمكانياته وإمكاناته وحمايةً لحقوقه وأرزاقه.

الدكتور بشير المر