هل نعتقد أن يأتينا جيش بعتاده وعدته من أقصى أصقاع الأرض ويواجهنا عسكرياً بشكل مباشر ويستولي على أرضنا ومقدراتنا، أو حتى يستعمرنا وينتدبنا؟
لقد انتهى عصر المفهوم العسكري الضيق للحروب التقليدية، وولى زمانها بعد الانهاكات العسكرية، وما تكبدته الدول الكبرى من خسائر فادحة مادياً وبشرياً نتيجة إطالة الحروب على أكثر من منطقة (العراق ، أفغانستان)؛ لذلك أيقنت الإدارة الأميركية أنه من الضروري عدم التدخل في مواجهات مباشرة مع الخصوم لتخفض فاتورة حروبها، فطورت شكل الصراعات الدولية والإقليمية، إذ أنتجت الجيل الرابع من الحروب عديمة الخطوط الواضحة، فلا فصل بين الحرب والسياسة، والمقاتلين، المدنيين، تتجاوز بذلك الأسلحة التقليدية بأسلحة هدامة بالغة الشراسة تستهدف تحطيم القدرات العسكرية مستخدمة التنظيمات الإرهابية التي تحركها دوافع أيديولوجية أو دينية تنشط لصالح أطراف خارجية مؤدلجة بعمليات ترويع للسكان المدنيين تصل إلى حد الإبادة الجماعية، ونشر الخراب وضرب المرافق العامة والاقتصادية والحيوية والمنشآت ذات القيمة الرمزية في عموم البلاد، في محاولة لإضعاف هيبة الدولة؛ لذلك نراهم يهدمون في المدن مجسمات تاريخية أو تماثيل لرموز وطنية.
ومن الأذرع المهمة في هذا الشكل من الحروب الإرهاب الاقتصادي الذي يتم بحصار البلدان بقرارات أممية، وتسييس وسائل الإعلام المختلفة والمعارضة لتأليب الرأي العام، وزرع منظمات المجتمع المدني التي تعمل باعتبارها أجهزة استخباراتية، ولا يخلو الأمر من الإمداد بالسلاح والمال لميليشيات غير نظامية تنتشر في أماكن عديدة تواجه دولة نظامية ليستمر الصراع الداخلي أطول قدر ممكن.
وبعد الانهاكات العسكرية الطويلة لعدة سنين، والقضاء على الثورات والإرهاب هنا وهناك، هل حقيقة يكون العدو وحلفاؤه قد فشلوا في تحقيق أهدافهم وتم الانتصار بعد سقوط هيكلة الدولة والمؤسسات والنظام الحاكم؟ أم أنها نهاية مرحلة وبداية؟ مرحلة الفوضى الخلاقة والحرب الناعمة والتآكل الهادئ البطيء من خراب متدرج للمدن وتحويل الناس لقطعان هائمة وشل قدرة البلد على تلبية الحاجات الأساسية وإعادة الإعداد النفسي للمبادئ والمثل العليا من خلال التضليل الإعلامي وتغيير شبكة العلاقات الاجتماعية واستراتيجيات التواصل والروابط القومية والوطنية، ينفذها الجانب غير العسكري عبر السياسيين العملاء الذين يلجؤون لأساليب التضليل والفتك الذهني ويشتتون الحقيقة في دهاليز الأخبار الكاذبة، يعاونهم محاربون محليون فاسدون شرسون ليسمحوا للمجتمع الدولي بالتدخل بحجة الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الانسان. بذلك يتم إنتاج خلية إدارة الأزمات وليس حل الأزمات، فتطفو على السطح تلك الأزمات (نقص المواد وانقطاع اساسيات وازمة وقود وطاقة) التي هي عماد الحياة، فبلد بلا مازوت يعني تعطيل للدوائر الرسمية، لا مواصلات، ولا نقل، ولا مستشفيات لا محطات مياه ومضخات، ومعامل ومصانع مغلقة، مخابز وأفران متوقفة عن العمل، مزارعون بدون ري للمحصولات، ودواجن ومزارع أبقار و محلات ومولات ومخازن غذائية خارج الخدمة، لا ترحيل للقمامة، وبالتالي انتشار للأوبئة انقطاع بين المدن وغيرها من التبعات.
إن تحويل نقص الحاجات إلى وجه آخر من أوجه الحرب هو عمل مدروس ومنظم بدقة لانهيار الدولة وتفكك مؤسساتها.
إن حروب الجيل الرابع (حروب بالوكالة) تديرها العولمة والتكنولوجيا، وتركز على الضغوط السياسية والأمنية والاقتصادية والحرب النفسية، وتعمل على التأثير في تماسك الدول وتفجير التناقضات الكائنة بها بما فيها الخصائص والمشكلات والاختلافات العرقية والمذهبية والطائفية، وأوجه القصور التي لا تخلو حكومة منها لإحداث أوضاع غريبة وقاسية، وبالتالي إفشال الدولة وسقوطها من الداخل.
وتستغل إدارة الحروب قوة الغوغاء المنظمة هؤلاء الأميين التائهين الحاقدين على المجتمع القادرين على تدمير ما أنتجته المؤسسات الاجتماعية؛ إنها القوة الشاردة التي بزغت بعدما هيأت لها إدارة الحروب (حروب الجيل الرابع) الظروف الملائمة من خلال الأنظمة الديكتاتورية التي غيبت وحصرت دور الأحزاب المنظمة التي كانت تحمي الشارع من الغوغاء، وتنشر ثقافة عامة، وتقود حركات سياسية يتداخل فيها الدفاع عن السيادة بالعدالة الاجتماعية والمساواة بين الناس وتعميق الانتماء الوطني، والسلوك القويم ضمن هيكيلية الدولة.
عدونا من داخلنا، فما يخطط له أعداؤنا ينفذه مواطنون من الدولة تمرسوا بالفساد والمحسوبيات وتاجروا بالأوطان، وفيما نحن لا نزال نحلل، ونوضح هذا الجيل من الحروب الذي بدأ في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، يضعنا العدو أمام أجيال أخرى من حروب الجيل الخامس والسادس، ويدير حروب المعلوماتية، وحروب الموارد، والحروب البيولوجية، وحروب المخدرات، والحروب الفكرية التي هي أسوأ الحروب التي تعمل على تدمير ثقافتنا ومعتقداتنا الفكرية والأيدولوجية، مستخدمة الأدوات الاستخباراتية المتطورة والذكاء الصناعي ووسائل الاتصال والتمويلات المالية الضخمة والأنظمة الحاكمة الهشة واستراتيجية اللاعنف الواهية.
وفي إطار كل ذلك ما زلنا شعوباً مرتبطة بالحياة وبالأمل بغدٍ أفضل، وما من سبيل الا الانتصار على مخططات العدو التي تستهدف بلادنا بإنتاج نظم تضع نصب أعينها مصالحة الوطن والشعب، وتقضي على الفردية والمصالح الشخصية والأنا، وتعمل على تفتيت القوة الرئيسية، وتشتيت العناصر المتمردة، وكشف حقيقتها ومصالحها الخاصة وتغليب سيادة القانون وشفافية القرارات، والممارسات الحكومية في إطار التشاركية الحقيقية مع المواطنين والاستجابة للمتطلبات الاجتماعية والاحتياجات الأساسية في ظل وفعالية للأداء الحكومي، والتعزيز المستمر لوعي الشعب من خلال إعادة تفعيل دور الأحزاب الوطنية في حراسة المؤسسات والمجتمع. وتمكين الاقتصاد الوطني ودعمه بإنشاء مجالس تعاون اقتصادية مع دول الجوار. وكما قال الزعيم أنطون سعاده :” حاربوا الفوضى بالنظام وحاربوا النظام بنظام أفعل منه”
رئيس المجلس الاعلى في الحزب السوري القومي الاجتماعي عامر التل