في ذكرى تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي، يطيب لي أن أتحدث عن حزب «غير عادي» يحمل أسراراً ما زالت عصيّة على عقل الشرق وتبدو له كالأحاجي في ظلامه الدامس.
نشأ الحزب وتأسس في الأمة السورية في 16ت2 1932. أسسه الزعيم الخالد أنطون سعاده.
بعيداً عن الدعاية والبروباغندات الساذجة التي تعتمدها معظم الأحزاب السياسية في هكذا مناسبات، فإن ما يميز هذا الحزب عن غيره من الأحزاب هو اتكاء عقيدته على منظومة من المفاهيم الفلسفية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية. منظومة فريدة اختص بها دون غيره وأهمها الفلسفة المادية ـ الروحية «ألمدرحية».
ظن كارل ماركس أن التاريخ تأسس وحدث وتطور بفعل العلاقات المادية ـ الجدلية لتفاعلات المجتمعات الإنسانية مقدماً للفكر الإنساني مصطلح المادية التاريخية، الذي اعتمدته معظم الأحزاب الشيوعية عقيدة لها وكان الظن أن النشوء والارتقاء والتقدم الإنساني يحدث أو يحصل بفعل التطور المادي ـ الجدلي الأحادي الجانب للتاريخ.
أما أنطون سعاده فقد رأى أن التطور والتقدم وارتقاء البشر والمجتمعات الإنسانية كان وما زال محصلة لتفاعل الروح مع المادة وما وصل إليه بنيان الحضارة منذ بدئها في فجر التاريخ إلى اليوم وما بعد اليوم هو بفعل هذا التفاعل.
المادة بصورتها النقية الصرفة هي الطبيعة بمظاهرها المختلفة من جبال وتراب ومياه وصخور… أما الروح التي قصدها أنطون سعاده فهي ليست الروح الواردة في كتب الأديان والتي تذهب إلى باريها عندما تغادر الجسد.
ولا يعرف أحد ماهيتها، بل «النفس» الإنسانية التي تعقلن المادة وتصب فيها ما يحلو لها وما تراه، فتحول الطبيعة ـ المادة إلى منجز مخلوط من المادة والروح، فتُبدع وتبتكر وتحوّل وتخترع. وفي بعض الأعمال من عمارة وفنون وآداب، فيها من الروح أكثر مما فيها مادة.
المدرحية، فلسفة تقدم وارتقاء البشر في التاريخ، هي الفلسفة التي ابتكر مصطلحها أنطون سعاده، وأهداها إلى أمته وإلى جميع الأمم وطالبها باعتمادها منهجا لها، فهي فلسفة جامعة للقوى الإنسانية ودافعة للتعاون والتآزر والتسامح وإنتاج الثروة من أجل سعادة الإنسان على هذا الكوكب الصغير. كما فيها أيضا خلاص البشرية من الحروب المهلكة والمدمرة لحياة الإنسان ووجوده على مسرح الحياة، والتي بتنا نشهدها اليوم بفعل العقل «الذكي» والشرير.
دعا سعاده أمته وأمم العالم وشعوبه إلى التسليم «بأن أساس الارتقاء الإنساني هو أساس روحي ـ مادي (مدرحي) وأن الإنسانية المتفوقة هي التي تدرك هذا الأساس وتشيّد صرح مستقبلها عليه».
إذا كانت الفلسفة المادية ـ الجدلية قد قوضت أركان وأسس الفلسفة الروحية المثالية، فلسفة المفكر الألماني الشهير «جورج فيلهالم هيغل» فإن الفلسفة المدرحية قوضت أركان وأسس أحادية كل من الفلسفتين، وباتت خاصة بعد سقوط المنظومة الشيوعية الاشتراكية فلسفة الإنسان الأخيرة للنشوء والتقدم والارتقاء، فإذا بالفكر العالمي الاجتماعي والاقتصادي والسياسي ينحو نحوها دون أن يرفع مصطلحها ودون اعترافه بمبتكرها. وفي الأمثولة والتجربة الصينية دليل عظيم على صلاحها ومصداقيتها إذ هي ظاهرة وبعمق مباشرة أو مداورة في النظام والمجتمع والدولة.
إذن نحن أمام حزب «غير عادي» سرّه أنه حامل لفلسفة نهضة الأمة السورية والأمم قاطبة. حزب فريد من نوعه بين أحزاب العالم.
وما زال الناس هنا في الشرق الممزق قبائل وأعراق وطوائف ومذاهب وعائلات، وبعد 92 عاماً على تأسيس الحزب و79عاما على رحيل مؤسسه، ما زالوا يتساءلون مذهولين عن سر هذا الحزب العظيم الذي استطاع محق العصبيات الجزئية من طائفية ومذهبية وعرقية وولاءات بدائية ما قبل قومية اجتماعية. يتساءلون عن سر قدرة الحزب على تنظيف وتحرير صفوفه من هذه اللوثات وأمراضها الفتاكة.
السر الكبير هو فيما ترسخ في عقول القوميين من مفهوم للدين، ومفهومهم له مستمد من مفهوم ونظرة انطون سعاده لهذه الظاهرة الاجتماعية والإنسانية العظيمة.
اعتبر أنطون سعاده أن الديانة الإسلامية والديانة المسيحية ديانة واحدة وليسا ديانتين. فالرسالة الإسلامية هي ذاتها الرسالة المسيحية:
«إن الرسالة المسيحية والرسالة المحمدية لهما اتجاه واحد في الحياة» (الإسلام في رسالتيه ص.24) … «وأنهما رسالة واحدة» (المرجع ذاته ص. 30) … «يتحد التعليم المحمدي بالتعليم اليسوعي فإذا هما تعليم واحد وليس تعليمين» (المرجع ذاته الصفحة ذاتها) …. «إن المرمى المناقبي الأخير للرسالة المحمدية لم يُقصّر قيد شعرة عن مرمى الرسالة المسيحية» (المرجع ذاته الصفحة ذاتها). هذا هو السر الذي جمع المسيحيين والمسلمين في حزب واحد وعلى مقاصد وأهداف واحدة في الحياة.
ما أحوجنا في هذه الظروف العصيبة التي لم يسبق لها مثيل في تاريخنا إلى صياغة وبلورة استراتيجياتنا السياسية ومواجهاتنا للأعداء بالاتكاء على هذه العقيدة وهذه النظرة إلى الدين.
هذا المفهوم وهذه النظرة إلى الديانتين الكبيرتين في الأمة السورية نظفت الحزب وحررته من مرض الطائفية والمذهبية الممعنان قتلاً وتدميراً في جسد الأمة.
وأضاف أنطون سعاده سراً آخر، بدا في نظرته إلى طبيعة الاجتماع الإنساني المكوّن للأمة فالأمة تتكون من مجتمع واحد لا من مجتمعات مختلفة ومتناقضة: «الأمة السورية مجتمع واحد» (المبدأ الاساسي السادس). « إذ لا يمكن أن نكون أمة واحدة إذا لم يكن هناك مجتمع واحد….. إذا لم تكن الهيئة الاجتماعية واحدة وإذا حصلت تجزئة في المجتمع تعرضت الأمة لخطر الانحلال النهائي والاضمحلال…. لا يمكن للأمة الواحدة أن تتجه في التاريخ اتجاهاً واحدا بعقليات متعددة متباينة أو متنافرة هذا أمر مستحيل….
الأمة في أساسها الحقيقي هي وحدة حياة فإذا لم تكن وحدة حياة لم تكن أمة حقيقية… الأمة هي وحدة اجتماعية وفي الوحدة الاجتماعية تضمحل العصبيات المتنافرة والعلاقات السلبية وتنشأ العصبية القومية الصحيحة….
في الوحدة الاجتماعية تزول الحزبيات الدينية وآثارها السيئة وتضمحل الأحقاد وتحل المحبة والتسامح القوميان محلها، ويُفسح المجال للتعاون الاقتصادي والشعور القومي الموحد وتنتفي مسهلات دخول الإرادات الأجنبية… لا إنقاذ للأمة من مصير التضعضع والهلاك إلا بحركة أصلية تُقيم مجتمعاً جديداً وعقلية جديدة وشعوراً واحداً» (المحاضرات. 94 ـ 95 ـ 96.) هذه الحركة هي الحزب السوري القومي الاجتماعي.
تتضافر هذه المفاهيم الرائدة وتجتمع مع مفاهيم فلسفية أخرى، كمفهوم الإنسان ـ المجتمع ومفهوم الديموقراطية التعبيرية ومفاهيم الحكم والسلطة الرشيدة، الخادمة والمؤتمنة على مصير الشعب لتكوّن متحدة ومتآزرة نهضة الأمة السورية الهادية للأمم، وهي قضية وهدف الحزب السوري القومي الاجتماعي العظيم.
هذا جزء من أسرار الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي أذهل الناس وما زال يذهلهم بدءا باستشهاد زعيمة وصولاً إلى وجوده اليوم في خنادق و «أنفاق» القتال مع حزب الله على المسافة صفر من جيوش العدو الإسرائيلي الغاصب. وهذا دأب حزب لا يفهمه من لم يلفحهم نور شمس النهضة القومية الاجتماعية الرائدة والعظيمة.