في بداية كل ربيع كان السوريون القدماء يحتفلون ببداية العام الجديد ليتزامن مع ولادة الطبيعة وتجددها بتبرعم أشجارها ونمو زرعها. كان البابليون والأشوريون يؤمنون بان الإله تموز ينبعث من بين الأموات لينقذ زوجته الآلهة عشتار بعد أن عانت من حكم الأشرار فيعود للحياة في موسم الربيع كرمز لتجدد الخليقة.
بعد الغزو الفارسي لبلاد ما بين النهرين وسقوط بابل في العام 539 ق.م. ومن بعده الغزو الإغريقي البيزنطي والروماني لبلاد الشام لم يكتب لتموز أن ينبعث من جديد إلا بعد أكثر من ألف ومئة سنة في القرن السابع وذلك بعد ولادة الإسلام وقيادة دمشق وبغداد لعولمته. في هذه الحقبة بُعثت نهضة فكرية علمية تنويرية عنوانها الانفتاح والتفاعل وقادها فلاسفة كبار كابن عربي وابن رشد فتَغير وجه التاريخ ورُسمت الكثير من معالم عصرنا الحديث. بعد ضعف وتفكك الدولة العباسية بدأ وطننا يتعرض مجددا لغزوات سلجوقية وعثمانية وصليبية ومغولية وفرنسية وانكليزية فتركت ترسبات فكرية أصولية وانعزالية وكُتب لعشتار مجددا أن ترزخ تحت حكم الأشرار.
في بداية القرن العشرين ومع فجر الربيع تجدد الأمل بانبعاث تموز ثانية ففي الأول من آذار 1904 ولد أنطون سعاده في الشوير ونشأ وترعرع في مدرسة أبيه الدكتور خليل سعاده وكانت أول الإشارات لوعيه القومي المبكر تحذيره في العام 1925 وهو في الواحدة والعشرين من العمر انه “رغم أن الحركة الصهيونية تدور على محور غير طبيعي فهي سائرة على خطة نظامية دقيقة وإذا لم تجابه بخطة نظامية أخرى معاكسة لها سيكون مصيرها النجاح”. بعد درس هذه الحركة ودرس واقع شعبه وأمته بعد مؤامرة سايكس بيكو التي قطعت أوصال الوطن إلى كيانات لخدمة الخطة الصهيونية، رسم ابن الثامنة والعشرين في العام 1932 الخطة المعاكسة لربيع الأمة وقدوم تموز بتأسيسه الحزب السوري القومي الاجتماعي فاعتمد على العلم الاجتماعي والمعرفة ولم يسمح للغرائز والعواطف أن تشوش فكره، فرفض انعزالية الاقلية المتقوقعة في لبنان وعروبة الأكثرية الوهمية العاطفية المُنفلشة على العالم العربي والتي تقفز فوق واقع البيئة الواحدة والمجتمع الواحد. على هذه الأساس حدد الوطن السوري الطبيعي والأمة السورية وأسس نهضتها ونهضة العالم العربي وأممه الأربعة ودعا إلى إنشاء جبهة واحدة من المغرب العربي ووادي النيل إلى الجزيرة العربية والهلال السوري الخصيب. كانت حرية شعبه وسيادته على أمته هاجسه الأول فاعتبر أن الحزبية الدينية هي لعنة الأمة ولا يمكن التخلص منها وإنشاء المجتمع الواحد إلا بفصل الدين عن الدولة. كذلك استنتج أن فقدان سيادة الأمة على نفسها قسمها ووزعها حصصا بين المستعمرين وضيع فلسطين التي يجب أن تكون قضية شامية ولبنانية وعراقية في الصميم.
لقد تنبه الصهاينة للخطر التي تشكله هذه الحركة النهضوية التموزية على تأسيس دولة إسرائيل ومشروعهم الاستعماري الاستيطاني، فتآمروا مع عملاء الداخل في لبنان والشام على زعيم الحركة واغتالوه في الثامن من تموز 1949 قبل تأسيس مجتمعه القومي في لبنان والشام وارسال جيشه القومي لتحرير فلسطين. بعد هذه الفترة استمرت الحركة الصهيونية في التخطيط البعيد المدى لإيجاد صيغة تصبح فيها الدولة اليهودية جزءا من نسيج المنطقة الاجتماعي يضمن لها الاستمرارية والشرعية. أول من كشف عن هذه الخطط كان الصحفي الهندي كرانجيا في كتابه بعنوان “خنجر اسرائيل” في 1957 الذي تضمن وثيقة سرية صهيونية عن خطة تقضي بتقسيم سوريا إلى ثلاث دويلات درزية وعلوية سنية وتقسيم لبنان إلى دولتين مارونية وشيعية وتقسيم العراق إلى دولة كردية ودولة عربية وإلحاق المنطقة الجنوبية بشاه إيران. وثيقة أخرى نشرت في مجلة “كيفونيم” فى عام 1982 التي تصدرها المنظمة الصهيونية العالمية بعنوان إستراتيجية إسرائيلية للثمانينيات دعت أيضاُ إلى تقسيم العراق وتقسيم لبنان إلى دويلات طائفية وفصل جنوب السودان. بعد الغزو الاميركي للعراق وبعد أن نضجت المخططات، نشر الصحافي رالف بيترز المقرب جدا من وزارة الدفاع الأميركية في 2006 خريطة “حدود الدم” التي أظهرت المشروع الأميركي الصهيوني لتقسيم المنطقة إلى دولة كردية، وشيعية، وسنية عراقية تشمل الجزيرة الفراتية، وسنية سورية تشمل دمشق وحلب وكونفدرالية اقلوية في لبنان “الأكبر” على الساحل تضم كونفيدراليات شبه مستقلة درزية، ومسيحية، وعلوية، وغيرها. قد تختلف التقسيمات النهائية حسب التطورات والصراعات الميدانية واعتبارات أخرى لكن النتيجة لن تختلف بمدى ويلاتها على الشعب السوراقي. أن سايكس ـ بيكو ـ 2 الاجتماعية الجديدة و”القوميات” المختلقة، السنية والشيعية والمسيحية والدرزية والعلوية والكردية، ستكون الاوكسيجين الذي سيغذي مشروع القومية اليهودية للاستمرار والسيطرة على “أرض إسرائيل” من الفرات إلى النيل عبر الهيمنة الاقتصادية وإشعال الحروب العبثية المستمرة بين هذه “القوميات”.
ان الحرب على غزة والضفة الغربية وفلسطينيي الداخل المحتل ولبنان والشام اليوم هي للسيطرة العرقية الصافية على “أرض إسرائيل” كما حددتها ممالك التوراة الوهمية وطرد شعبنا منها إلى سيناء ولبنان والأردن، وإكمال مشروع البلقنة والتفتيت في خلق كونفدراليات شبه مستقلة في دولة صورية في لبنان وفي الشام، والسيطرة الاقتصادية والسياسية من الفرات إلى النيل عبر الاتفاقات الإبراهيمية وصفقة القرن. أن رد شعبنا كان بإنشاء الجيوش المقاومة الملتحمة مع الشعب في فلسطين ولبنان وتوجيه ايمانها في خدمة القضية القومية، وما أشبه اليوم بالبارحة عندما عمل سعاده لإنشاء جيش قومي في 1947 للدفاع عن فلسطين (رغم بعض التباين). في ذكرى التأسيس 92 لن ننكر انه رغم التضحيات الكبيرة أن دور الحزب السوري القومي الاجتماعي تراجع بعد استشهاد سعاده ولم يستطع أن يكون حركة الشعب العامة لانقاد الأمة. هذا لا يعني أن دورنا انتهى فما زلنا في كل الساحات فكرا، وصناعة، وغلالا، وجهادا. ما زالت طلقات شهدائنا وأبطالنا في المقاومة الوطنية اللبنانية، التي غيرت مسار لبنان ومهدت لتحريره وأمنت الأرضية لنمو جيش المقاومة، ترسم لنا الطريق لمقاومة قومية شاملة مؤيدة بصلابة الإيمان وصواب العقيدة لهزيمة المخططات المرسومة لوطننا.
أن هذه الذكرى تزيد الحزب السوري القومي الاجتماعي إصرارا وعزما على أن يعمل لكسب ثقة الشعب لتوجهاته الإنقاذية على مدى الأمة السورية، وذلك بإزالة العوائق الداخلية والخارجية التي تمنع وصول رسالته إلى الشعب، وبالتجدد، من دون المس بالأسس، في الإدارة والإعلام والثقافة حسب مقتضيات العصر. كذلك وأمام واقعنا اليوم فدور الحزب في كونه رديف المقاومة اجتماعيا وسياسيا لا يقل أهمية عن دوره في المقاومة الميدانية. أن تحفيز الإخاء القومي وإزالة الهُوّة بين الطوائف والمذاهب والتأكيد على قومية المعركة وليس فئويتها (كما يُروج لها العدو وامتداداته الداخلية) ضد العدو الصهيوني هو عامل أساسي لتعزيز صمود شعبنا. لا نغفل أيضا دورنا في المغتربات التي يجب تطويره في تعزيز الوعي في جالياتنا والشعوب المضيفة لأحقية وعدل قضيتنا، والتعاون مع المجتمع المدني وأحرار العالم على تغيير سياسات الدول المعادية.
إن لم نحشد لمعركتنا الأصدقاء كإيران واليمن وكل الأحرار في العالم فقد يهزمنا هذا العدو في الصميم ويُؤسس سايكس ـ بيكو ـ 2 اجتماعية، تزيد من بعدها الصعوبة إضعافاً لإعادة اللحمة والنهضة لهذه الأمة ولانبعاث تموزها من جديد.