هل يصبح الفكر القومي الاجتماعي أساساً لنظام عالمي جديد؟

لا شك أن مصائر الشعوب، تفرضها معادلات صراعية بين القوى الفاعلة على سطح الكوكب. و من البديهي أن المفاعيل الجيوسياسية لتلك الصراعات تحددها فقط  القوى الكبرى المنتجة للتكنلوجيا العالية مع اقتصاداتها  المولدة للصناعات و المتحكمة بمسارات خطوط التجارة و الملاحة و غيرها، كما تلك التي ترسم لخمسين سنة مقبلة، ملامح نفوذ قادم لها حين تشق خطوط ملاحة في بحر البلطيق مثلا أو القطب الشمالي و تطور تقنيات كاسحات الجليد التي تمهد لحياة كاملة جديدة قد تنقل محور التقدم العالمي إلى حيث لم يكن ثمة تفكير في وجود حياة على الأرض بسبب التقدم العلمي الذي تحرزه، و هنا يعود سؤال الزعيم المؤسس متجدداً و قائلاً:  من نحن؟ و ما الذي جلب على أمتنا هذا الويل؟

الأكيد أن أجوبة عديدة تتبادر إلى عقل كل واحد منا و تتعلق بالسياسة و التجزئة و الاحتلال، و لكن التخلف عن الفعل النهضوي في هذا العالم هو الأساس.

كيف نعي عوامل قوتنا؟

في هذا العالم اليوم جملة من الصراعات الكبرى بين الكبار و قد أشرت آنفاً إلى الصراع في البلطيق و القطب الشمالي على أنه يتعلق باستغلال ثروات سيبيريا وصولا إلى منطقة نمو عالمي جديد بين منطقة شرق آسيا حتى شمال أوروبا، و سوف يحدد المنحى الصراعي بين القوى الكبرى في العالم من الولايات المتحدة الأميركية و الصين و روسيا مآلات هذا الأمر في العقود المقبلة.

لكن ثمة مناطق أخرى في العالم دأبت على السكون خارج الفعل الإنساني الحضاري لأكثر من ألف عام و منها منطقتنا و افريقيا المثخنة بالصراعات الثانوية و التقسيم الجائر.

 فبعيدا عن خارطة تقسيم سوريا الطبيعية و تجزئتها و خلق كيان الاحتلال الإسرائيلي فيها، تمتد التجزئة في افريقيا أيضاً، فتجد دولة مثلآ مثل جامبيا الممتدة كدولة تشبه الدودة الشريطية داخل أراضي السنغال، و أصر الاحتلال الأوروبي على جعلها دولة مستقلة عما حولها، و ما هي سوى أراضي حول نهر جامبيا، بما يشبه أن تفصل سكان نهر ضفتي نهر النيل أو دجلة مثلا عما حولهم، هذا غير مسح أي هوية ثقافية جامعة للسكان فتجد دولهم تتخذ أسماء الشمال و الجنوب مثل فولتا العليا و جنوب السودان و جنوب إفريقيا و غيرها كثير…

هل وضع المفكر انطوت سعاده فكره لسوريا فقط؟

قبل الإجابة عن هذا السؤال لا بد من القول بأن العالم كله اليوم يبحث عن نظام عالمي جديد، فأمريكا لا زالت و مع كل انتخابات فيها تبشرنا بنظام تريده هي، و كيان الاحتلال الإسرائيلي يصرح و يخوض أنهار الدماء من أجل تحقيق نظام شرق أوسطي جديد كما قال شمعون بيريز و يكمل نتنياهو بعده، و روسيا و الصين قد أعلنتا بعد اجتماع قمة منذ سنوات على لسان الرئيس الصيني شي جين بين،  عن ولوج عصر التعددية القطبية، و لكن الملاحظ في كل ذلك أن الناطق الوحيد في كل تلك المشاريع هي إما قوة الصواريخ و الطائرات أو قوة المال و التجارة، مع غياب تام لرؤية فكرية عند أي من الطروحات لدى الشرق و الغرب و تجيب عن الأسئلة الملحة التي جلبت على كل شعوب العالم الويل و ليس على شعبنا فقط، كما قال سعادة، فأين نجد أجوبة في فكر سعادة عن كل ذلك؟

لا شك أن من يقرأ فكر سعادة بدءاً من كتابه الفلسفي نشوء الأمم و قراءته الحصيفة لجل الفلسفات التي نشأت خصيصاً مع عصر النهضة من هيجل إلى دوركهايم و كارل ماركس و غيرهم، يلاحظ قراءته النقدية لتلك النظريات بمعنى التفاعل التبادلي بين فكره و ما أتوا به مثل جدلية هيجل التي طبقها سعادة على التمازج السلالي لتكوين الأمم بين ال these و ال antithese  بما ينتج ال synthese    أي أن الشعوب المكونة لقوميات مرتقية هي تلك التي تتخلق من قضية و عكسها أو خلافها كما في المعادلات الكيماوية تماماً و التي تنتج مركبات أخرى تمامآ و بمواصفات مغايرة كليا و بالتالي لا يصح أبدا القول بأننا في سوريا من سلالات الفينيقيين أو سلالات العدنانيين و القحطانيين و أبناء فلان و علان، و هذا أهم دحض علمي لتلك الخرافات التي لا تنفع في شيء، و بالعكس فإن الهوية الجامعة هي النتاج الطبيعي لتفاعل تلك العوامل جلها عبر الزمن الجلي، بالإضافة إلى قراءته الجدلية الهامة في فكري هيجل الروحي و ماركس المادي الديالكتيكي الذي أنتج منه نظريته في المدرحية ذات التطبيق المفيد في الواقع الاجتماعي.

هنا بالذات نجد أن سعادة قد أتى بالترياق العلاجي لكل الأزمات السورية التي أتت بعد جريمة إعدامه و اغتياله أو بالأخص التي اغتالوه من اجل ان تسري في جسد الأمة كل الأمراض الطائفية و العرقية الناجمة عن الإيمان بالخرافات مع استبعاد المفكر الطبيب الذي أتى مبكرا جداً ليحمل لها الدواء، و دخلنا في صراعات و مشاريع ناقصة مثل الوحدة مع مصر بدل العراق ليتحول فشلها عداءاً جيوسياسيا بين ثلاثة أنظمة حاكمة كبرى في العالم العربي في دمشق و بغداد و القاهرة، بدلا من تأسيس جبهة عربية كما دعا إليها سعادة بكل واقعية!

لماذا افريقيا؟

لقد سقت مثال جامبيا و غيرها للدلالة على أن من يحمل الفكر القومي الاجتماعي من أبناء سعادة في الفكر، يحمل في ذات الوقت مسؤولية النهضة ليس في سوريا الطبيعية فحسب، بل في الفعل الحضاري الإنساني كله، فكما يقول سعادة في المبدأ الأساسي السابع بأن النهضة السورية القومية الاجتماعية تستمد روحها من مواهب الأمة السورية و تاريخها الثقافي السياسي القومي، و كما حقق اختراع هذه الأمة للأحرف الهجائية و شكل أعظم ثورة فكرية في تاريخ البشرية و أنشأ الشرائع المدنية الأولى و الطابع العمراني، فإن تصدير فكر سعادة على الأساس القومي الاجتماعي لإعادة تشكيل جميع الأمم و ليس الأمة السورية فحسب، على أساس الحدود الطبيعية و إزالة الحدود المصطنعة، سيشكل العامل الحاسم في إعادة وحدة و قوة و نهضة هذه الشعوب، و كل مغتربينا الذين يعيشون في افريقيا، يعلمون مستويات القهر الذي اذاقه الاستعمار الأوروبي لهذه الدول و منعهم حتى من تاسيس بنى تحتية من طرق و جسور و مرافئ بينهم، و اذاقهم حياة الانقلابات العسكرية المتتالية على اساس التبعية لشركة غربية أحياناً تمول هذا الحاكم أو ذاك.

إن الاحتفال بذكرى تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي هو تجديد لانتصار فكر المؤسس انطون سعادة الذي يستطيع بكل جدارة أن يشكل عامل القوة الأكبر الذي تمتلكه أمتنا و شعبنا و تنطلق منه إلى العالمية، حيث لا حياة في هذا العالم للضعفاء و لا يستحق من يتخذ الفكر قولا و يمارس في فعله اليومي عكس ما يقوله، أن يكون على خارطة الفعل النهضوي الحضاري.

طارق الأحمد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *