رغم انقضاء أكثر من قرن على ولادته، مازال أنطون سعاده حاضراً في حركة الصراع القومي من أجل تحقيق الوحدة القومية وبناء النظام الجديد على قاعدة تحرير الارض وحرية الانسان وتوفير العدالة الاجتماعية والمشاركة الفعالة والخلاقة في تشييد صرح الانسانية.
مازال سعاده حاضراً لأنه باختصار امتلك معرفة الواقع الاجتماعي واستشرف المستقبل وتميز عن رجالات النهضة بأنه ألغى المسافة بين النظرية والتطبيق فكان قائداً وشهيدا لأنه مفكر عملي.
وفي أول مقال منشور له، وكان عمره 17 سنة، كانت كلماته «حتى الآن لم نر ما يدلنا على أن هنالك نهضة حقيقية نتفاءل بها وحتى الآن لم ينشأ سوى بعض أحزاب لخدمة الوطن لم تتجاوز خدمها إلقاء الخطب وإرسال البرقيات الاحتجاجية إلى جمعية الأمم، مما لا يجدي نفعاً إذ لم يكن هنالك أعمال تنفيذية»
وفي ختام مقاله الأول المنشور بتاريخ 4/6/1921 في «الجريدة» في سان باولو يقول بأن الغيرة على الوطن وحب الوطن «لا يكفيان، وليسا بالبرهان على ذلك، بل البرهان هي الأعمال التي يأتيها كل فرد تجاه وطنه».
] الاعمال الكاملة ج1 ص1[
ثم كرت سبحة كتاباته التي دلت على وعي مبكر بضرورة الوحدة القومية فنبه من أخطار التجزئة والتعصب الديني والمطامع الاستعمارية الاجنبية على أنواعها وأخطرها الصهيونية.
وهكذا منذ بدايته في الكتابة وعى سعاده حركة الصراع القومي والترابط العضوي بين العدو الداخلي المتمثل بالتعصب الديني والتجزئة القومية من جهة ومن جهة أخرى عدو خارجي متمثل بالاستعمار والصهيونية.
وبناء على هذه المعادلة أسس سعاده خطة المواجهة العملية التي تفرد بها تفكيراً وقيادة لشق طريق النهضة.
يقول سعاده في 1/10/1921: «يجب على السوريين، إذا كانوا يطمحون إلى الاستقلال والحرية كأمة حية، أن يتحدوا كالأمم الحية التي سبقتهم، فيعتمدون على افعالهم لا أقوالهم وعلى اتحادهم لا منازعاتهم وعلى أنفسهم لا غيرهم، لأن هذه هي الطريق الوحيدة إلى الحرية والاستقلال».
[الأعمال الكاملة ج1 ص 13]
هذا التفكير العملي الذي اعتمده سعاده لإضرام «الثورة السورية» وتعبئة مكامن القوة في الأمة، لم يجرفه إلى اعتماد مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، فقد ميز بين «السياسة الرجعية القائلة بإعداد القوة واتخاذها وسيلة لتنفيذ المطامح والمطامع» وبين «سياسة أخرى تقول بإلغاء المطامع وإبطال اعتداءات ومنع استعمال القوة إلا لتأييد الحق والحرية والعدل».
[الأعمال الكاملة ج1 ص69]
وكم نحن اليوم بحاجة إلى التأكيد على هذا المبدأ في مواجهة الغطرسة الأميركية التي تستعمل القوة المفرطة للهيمنة على العالم بينما نحن ما زلنا متمسكين بالمقاومة كخيار للدفاع عن حقنا القومي وتحقيق الحرية والعدالة لكل الأمم من دون هيمنة أو استفراد أو استكبار.
وهذا ما استشرفه سعاده في مقال نشره في المجلة بتاريخ 1/5/1924 تحت عنوان «سقوط الولايات المتحدة في عالم الإنسانية الأدبي».
وهذا المقال الذي يحاكي الراهن جاء فيه بأن الشرقيين عموماً فقدوا الثقة الأدبية بالولايات المتحدة وبسائر الدول الغربية لأن الولايات المتحدة «لا تفرق في شيء عن أخواتها الغربيات الطامعات في التلذذ بالاستعمار والاستبداد..»
[الأعمال الكاملة ج1 ص 98]
لم يكتف سعاده بإدانة السياسة الأميركية لأنها أيدت وعد بلفور واستعمار سوريا وخيانتها لمبادئ الحرية والديمقراطية، بل أدانها أيضاً بسبب سياسة «القوة الحربية» التي تنتهجها للهيمنة على أميركا الوسطى والجنوبية وللتدخل في شؤون أوروبا التي تنهشها المنازعات والحروب. وقد تنبه سعاده إلى بروز تيار قومي مناهض للهيمنة الأميركية بدأ يظهر في أمم الشرق وأميركا اللاتينية وفي 12/11/1931 كتب سعاده في جريدة «اليوم» الدمشقية عن «تيار من الأفكار الثائرة المشبعة بروح القوميات الحديثة… ويسير هذا التيار في وجهة الانتقاض على ما يسمونه «سلطة الولايات المتحدة الإمبراطورية»
[الأعمال الكاملة ج1 ص 298]
وهذا النزوع الإمبراطوري للولايات المتحدة بدأ يظهر بشكل واضح بعد أحداث 11 أيلول وقد كتب عنه الكثير في مقالات وكتب عديدة أبرزها «ما بعد الإمبراطورية» للمفكر إيمانويل تود.
وكما استشرف سعاده «سقوط الولايات المتحدة من عالم الإنسانية الأدبي» استشرف أيضاً «أن العالم سائر إلى الاشتراكية بسرعة القطار المستعجل» وتوقع «انتشار المبادئ الاشتراكية انتشاراً عظيماً… لتخليص العالم من حروب المطامع والاهواء وإنقاذ الأمم من كابوس أصحاب رؤوس الأموال». وقد ميز سعاده بفكره الثاقب بين الاشتراكية التي أصبحت اليوم دين الارقاء وبين تطبيقاتها الخاطئة.
[الاعمال الكاملة ج1 ص103]
ولأن هذه القواعد التي دعي إليها سعاده لم تحترم، بل على العكس استمر «خطر التزاحم الاقتصادي…. والتنازع على اسواق العالم… وهو في الغالب ممزوج بحب السيادة والسيطرة» وليست «مباراة» كما يسميها البعض ما قد ينتهي بحرب أخرى لا تنكب أوروبا بأقل مما نكبتها به الحرب السابقة.
ولتفادي الحرب العالمية الثانية التي توقع سعاده اندلاعها في مقال كتبه في «المجلة» بتاريخ 1/8/1924 دعا «أن توقع الدول الأوروبية كلها اتفاقاً اقتصاديا سياسيا عاماً….» ففي إمكان الدول الأوروبية كلها أن تتبارى في الشؤون الاقتصادية دون أن تلجأ إلى «امتلاك الاسواق التجارية في العالم بطرق غير اقتصادية… فأوروبا التي تحاول الآن أن توجد السلام، قد تتحول عن هذا القصد بعد حين إلى امتشاق الحسام والمناداة بالحرب».
[الاعمال الكاملة ج1ص117]
وفي مقالة أخرى كتبها في «اليوم» الدمشقية بتاريخ 26/10/1931 حلل سعاده العلاقات بين الولايات المتحدة وأوروبا «وانقسام المصالح العالمية انقساما لا يعود بالخير العام. إن من أكبر العوامل التي حدت بحكماء السياسة الأوروبية أن يحاولوا الوصول إلى نوع من الاتحاد الأوروبي وجود مصالح أميركية مستقلة تزاحم المصالح الأوروبية…ولكن شؤون العالم الاقتصادية أصبحت اليوم مشتبكة بعضها ببعض اشتباكا يجعل حالة قسم من العالم يؤثر في حالة قسم أخر مهما بعدت المسافة».
[الاعمال الكاملة ج1ص271]
ولأن أوروبا غرقت في منازعاتها وعجزت يومها عن تحقيق اتحادها ولم تتمكن من حل خلافاتها ومشاكلها مما كان سببا في اندلاع الحرب وما توقعه سعاده في العام 1924 اندلع حرباً عالمية ثانية طاحنة بين العام 1939 -1945.
هكذا قرأ سعاده العلاقات الدولية على أنها صراع قومي على المصالح والموارد والنفوذ والمواقع الاستراتيجية، وليست كما يتوهم البعض اليوم بأنها «صراع حضارات» . إن مقولة صراع الحضارات تعكس في إحدى أوجهها مركزية الحضارة الغربية عامة والأميركية خاصة على حساب تهميش الحضارات القومية الأخرى وقد أدرك سعاده هذه الحقيقة وفضح النزعة الغربية العنصرية التي تدعي التفوق والمدنية «هذه الفلسفة التاريخية العقيمة التي أنتجتها أدمغة المؤرخين الغربيين المتعصبين… وغالى بعضهم في وصف «المواقف التاريخية» التي أنقذ فيها الغرب المدنية من خطر بربرية الشرق… إن النهضات الوطنية في الشرق لا تهدد المدنية، بل تهدد البربرية الغربية….. لا ينتظر الشرق ولا يجب أن ينتظر انصافاً من الغرب أو من التاريخ الغربي القائل «أوروبة فوق الجميع» ….. في العالم الثالث. وقد نالت عدة دول استقلالها كما أخفقت أخرى، وما زال الشرق حتى اليوم مدعو إلى قيام جبهته العريضة التي عرفت يوماً بـ «دول عدم الانحياز» وهي اليوم تعبر عن رفضها للهيمنة الأميركية بأشكال مختلفة، وما زالت تصارع من أجل تحقيق حريتها واستقلالها ووحدتها القومية تمهيداً لقيام حركة مناهضة العولمة والصهيونية ومختلف أشكال العنصرية والهيمنة، التي كما يقول سعاده متى «شبت الثورة الشرقية الكبرى المنتظرة ابتدأ تاريخ جديد غير التاريخ القديم البالي».
[الأعمال الكاملة، ج1، ص 199، «ثورة الشرق» المجلة 1/7/1925]
إن حركة التاريخ كما فهمها سعاده من خلال استقرائه للعلاقات الدولية والتنازع بين الأمم على المصالح، هي حركة يسيرها الصراع باتجاه تطور إنساني متجدد ومستمر لا نهاية له، كما يحاول أن يصور فوكوياما بنظرية فوقية تريد اقفال التاريخ على الحقبة الأميركية.
التاريخ هو حركة صراع، والعامل الحاسم في مساره هي القوة. ومقولة الصراع لدى سعاده عندها ابعاد متنوعة أبرزها صراع الانسان مع الطبيعة، صراع الإنسان مع الإنسان، صراع قومي بين أمة وأمة.
أما القوة فهي من جهة «وسيلة لتنفيذ المصالح والمطامع» كما هي من جهة أخرى أداة تستعمل «لتأييد الحق والحرية والعدل».
ومن خلال تفكيره العملي أدرك سعاده أن نهضة الأمة وإحقاق الحق والمشاركة الفعلية في عملية الصراع لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال المقاومة والثورة واستعمال القوة. إن فهم «فلسفة القوة» على حد تعبير سعاده هو الطريق لإثبات حق الأمة في الحياة.
وحتى تمتلك الأمة مكامن القوة في عملية الصراع يتوجب عليها أن تستفيد من دروس الحروب «فتنفض عنها غبار الخمول وتسارع إلى تغيير الأساليب القديمة التي أفسدت حياتها الفكرية، وتعمد إلى الاعتماد على نفسها، والانتباه إلى علمائها ومفكريها والاهتداء بنور علمهم وهداية تفكيرهم» وفي المجال نفسه ركز سعاده على «القوة الفكرية» و«أهمية الصحافة» والمسؤولية الملقاة على طبقتها المتنورة…. على خدمة التنوير الفكري».
[الأعمال الكاملة ج1 ص412 المجلة 1/2/1933]
وهكذا أيضاً استشرف سعاده بأن القوة هي القول الفصل في عملية الصراع، وبان القوة لم تعد مقتصرة على الجوانب المادية من اقتصادية وعسكرية وغيرها، بل اصبحت تشمل قوة الفكر والعلم والمعرفة.
وقد خصص الفيلسوف الامريكي الفن توفلر كتابه المؤثر حول «تحول السلطة» مركزا على المعنى الجديد للسلطة، هو أن المعرفة هي القوة في هذا العصر بعد أن كانت القوة «تنبع من فوهة البندقية» كما أن القوة كانت في مراحل أخرى تعتبر أن «المال يتكلم». قيل بان السلطة هي استباق، هي استشراف، هي توقع، وبهذا المعنى كان سعاده مفكراً «رؤيوياً»، امتلك منهجاً واقعيا عمليا قادرا على التحليل الموضوعي والاستنتاج المطابق والمواكب لحركة التاريخ.
ويوم كان معظم رواد النهضة ورجال الفكر والثقافة غارقين في الخطب الرنانة والنظريات والقاء المواعظ عرف سعاده كيف يكون ردا على عهود الانحطاط والجهل والتخاذل وهكذا عرف من أين يبدأ ومن اين تنطلق النهضة وحركة التغيير.
هذه باختصار بعض معالم استشرافات سعاده وحصرتها بكتاباته الاولى ما قبل تأسيس الحزب مابين 1921-1933، والتي تجعل منه مفكراً عملياً بامتياز صاحب رؤية مازالت واقعية اليوم ومنارة للغد. وبمناسبة ذكرى التأسيس نؤكد بان سعاده ما زال حاضراً وفاعلاً بينما آخرون يتصدرون الصفوف الامامية ويمثلون على خشبة المسرح وهم غائبون عن ضمير الأمة وعن ساحة الصراع.