نقطة الانطلاق في التفكير الفلسفي عند أنطون سعاده، مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي وزعيمه، تكمن في منظومة من التساؤلات الوجودية التي طرحها على نفسه أولاً، ثم على الآخرين، في فترتين زمنيتين يفصل بينهما إقدامه على تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي بصورة سرية سنة 1932. وهاتان الفترتان لا تشكلان قطيعة معرفية في نشاطه الفكري، وإنما هما مرتبطتان بقرار الانتقال من البحث المجرد في واقع الأمة السورية بُعيد الحرب العالمية الأولى إلى التأسيس الفعلي لعمل حزبي غايته العليا «بعث نهضة سورية قومية اجتماعية تكفل تحقيق مبادئه وتعيد إلى الأمة السورية حيويتها وقوتها». (1)وهذا العمل لا يتم إلا بالخروج من الشك والفوضى إلى اليقين والوضوح.
والتساؤلات الوجودية، بصورة إجمالية، هي صنو منهج الشك الفلسفي الذي يسعى للوصول إلى اليقين. وقد لجأ فلاسفة كثر، قبل سعاده وبعده، إلى هذا المنهج كمقدمة تأسيسية لا بد منها لبناء منظومة فلسفية متكاملة تقوم على قاعدة راسخة أعمدتها الأساسية هي تلك الأجوبة المبدئية على تلك التساؤلات. ولا يمكن أبداً الفصل بين المسلمات والنتائج لدى أي من هذه المدارس الفلسفية، إذ أن نقطة الانطلاق والهدف من ذلك الانطلاق هما اللذان يحددان المسار، وبالتالي هما اللذان ينتجان المبادئ الناجمة عن ذلك المسار.
قلنا إن سعاده طرح تساؤلاته الوجودية على مدى فترتين، من دون حدوث قطيعة زمنية واضحة بينهما. ويمكننا أن نرجع زمن ولادة التساؤلات إلى مرحلة الحرب العالمية الأولى، حينما عانت سورية ويلات المجاعة التي أوصلتها إلى حافة الكارثة الإنسانية الشاملة. يقول سعاده في رسالته إلى المحامي حميد فرنجية وعنوانها «في ما دفعني إلى انشاء الحزب السوري القومي الاجتماعي»(2): «كنت حدثاً عندما نشبت الحرب الكبرى سنة 1914، ولكني كنت قد بدأت أشعر وأدرك. وكان أول ما تبادر إلى ذهني، وقد شاهدت ما شاهدت وشعرت بما شعرت وذقت ما ذقت مما مني به شعبي، هذا السؤال: ما الذي جلب على شعبي هذا الويل». الفتى إبن الثلاث عشرة سنة يطرح على نفسه تساؤلاً، كي يمهد للوصول إلى جواب يقيني.
ومن أجل متابعة تطور منهج التساؤلات عند سعاده، دعونا نفكك عبارة «ما الذي جلب على شعبي هذا الويل؟»، فنجد أمامنا التالي: عنصر «ما الذي» المجهول الذي يبحث عنه سعاده. عنصر «الويل» الذي عايشه سعاده، وعانى مباشرة تبعاته المأسوية. عنصر «شعبي» الذي يمكن وصفه بأنه المعروف ـ المجهول في الوقت ذاته. هذا التساؤل يتناول الواقع كما عاينه سعاده خلال الحرب. وهو تساؤل اتخذ أبعاداً أشمل وأعمق عندما فشلت الأمة السورية في استعادة سيادتها القومية، ووقعت تحت براثن القوى الاستعمارية الكبرى آنذاك (بريطانيا وفرنسا) التي عمدت إلى ترسيخ حدة الانقسامات الدينية والطائفية والعرقية في المجتمع السوري الممزق والخارج منهكاً من ظلامية الحكم العثماني على مدى أربعة قرون. ومما زاد في حراجة الأزمة القومية أن القوتين المنتصرتين في الحرب أقدمتا على تمزيق أوصال الوطن السوري جغرافياً وفق ترتيبات دينية وعرقية، إضافة إلى سلخ أجزاء إستراتيجية حيوية ومنحها للأتراك من جهة الشمال وللحركة الصهيونية من جهة الجنوب.
صحيح أن سؤال «ما الذي جلب على شعبي هذا الويل؟» ورد في رسالة تعود إلى 10 كانون الأول سنة 1935 (أي ما بعد التأسيس)، لكنه بالفعل يرجع إلى الفترة الأولى. ونستطيع باطمئنان أن نربط ذلك السؤال بمرحلة الخروج من الحرب والسقوط في براثن الاستعمار الأوروبي الجديد الذي حلّ مكان الاستبداد العثماني الراحل. فكان من الطبيعي أن يصيغ سعاده جوابه الوجودي التأسيسي على الشكل التالي: «وبعد درس أولي منظم قررتُ أن فقدان السيادة القومية هو السبب الأول فيما حلّ بأمتي وفيما يحل بها». (3) ولو أن سعاده اكتفى بالوقوف عند عبارة «فيما حلّ بأمتي»، لكان أصبح مؤرخاً تنتهي مهمته برصد العوامل التي أوصلت الأمة السورية إلى تلك الحال. لكنه تابع يقول: «… وفيما يحل بها»، أي أنه نقل التساؤل الوجودي إلى مستوى يستدعي أجوبة ذات أبعاد مستقبلية.
إن الإجابة التي توصل إليها سعاده رداً على سؤاله التمهيدي، وهي «فقدان السيادة القومية»، فتحت أمامه آفاق التفكير القومي المنظم أولاً للعمل على إزالة أسباب الويل، وثانياً لإنشاء عقيدة قومية اجتماعية تحصّن الشعب السوري فلا يسقط في الويل مرة أخرى. ذلك أن طرح التساؤلات هو منهج يُؤدي إلى أجوبة معينة تساعد بالتالي في كشف الأسباب التي تطلق بدورها تساؤلات جديدة… وهكذا. فسعاده لم ينشئ العقيدة القومية الاجتماعية رداً على ظرف معين كالحرب العالمية أو الانتداب وما شابه من الحوادث العارضة، بل أراد تقديم منهج في التفكير لا يتوقف عن طرح المزيد من التساؤلات وصولاً إلى تحديد الأسباب وليس العوارض فقط. يقول: «رأيت أن كل عمل قومي صحيح يجب أن يبدأ من هذا السؤال الفلسفي: من نحن؟ الذي وضعته لأول مرة أمام نفسي، منذ بدء تفكيري القومي الاجتماعي، وطرحته على الشعب في رسالة مني إلى النزالة السورية في البرازيل، بمناسبة وفاة والدي هناك سنة 1934».(4)
التساؤل الوجودي: «ما الذي جلب على شعبي هذا الويل»، والتساؤل الفلسفي: «من نحن؟» شكلا ما يمكن أن نسميه «التساؤلات المعرفية» التي أفضت إلى نشوء الحركة القومية الاجتماعية وتأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي. فالأجوبة التي كان سعاده يبحث عنها إنما جاءت في السياق العملي التنظيمي وليس فقط في البحث العقلي النظري. وهو يمتاز عن المفكرين «الفلسفيين» الآخرين في سورية، خصوصاً في عصر «فجر النهضة»، في أنه زاوج بين التفكير المجرد الهادف إلى إيجاد أجوبة على أسئلته الوجودية وبين النشاط التنظيمي المتنوع الذي يجد فيه إطاراً حركياً لاختبار تلك الأجوبة في الواقع الاجتماعي للأمة السورية، في الوطن وفي المغتربات على حد سواء. وكان مرشده الوحيد في طرح الأسئلة والبحث عن الأجوبة هو العقل: «لم يوجد العقل الإنساني عبثاً. لم يوجد ليتقيد وينشلّ. بل وجد ليعرف، ليدرك، ليتبصر، ليميّز، ليعيّن الأهداف وليفعل في الوجود. وفي نظرتنا أنه لا شيء مطلقاً يمكن أن يعطل هذه القوة الأساسية وهذه الموهبة للإنسان. العقل في الإنسان هو نفسه الشرع الأعلى والشرع الأساسي».(5)
تنقسم التساؤلات الوجودية التي تعامل معها سعاده في المرحلة المبكرة من تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي، بل حتى قبل انخراطه في أية أعمال تنظيمية في مغتربه البرازيلي الأول (1920 ــ 1930)، إلى نوعين يرتكز الثاني منهما بصورة منطقية على الأول. ونحن نقترح تسميتهما بـ «التساؤلات المعرفية» و«التساؤلات اليقينية».
جاءت الفرصة بمناسبة وفاة الدكتور خليل سعاده في البرازيل، فوجه سعاده الإبن رسالة إلى الجالية هناك بتاريخ 5 حزيران سنة 1934، أي بعد سنتين على تأسيس الحزب الذي كان ما يزال في مرحلته السرية. وفي هذه الرسالة، يطرح سعاده مجموعة من الأسئلة على المهاجرين السوريين، ليس القصد منها الحصول على أجوبة محددة بقدر ما هي دعوة تمهيدية استعداداً للإنخراط في العمل النهضوي فور الإعلان رسمياً عن وجود الحزب السوري القومي الاجتماعي. يقول (6):
«ويتراءى لي أن أمتنا كانت منذ عصور قديمة جداً أمام عدة مسائل تتطلب أجوبة صحيحة وهي:
هل نحن أمة حية؟
هل نحن مجموع له هدف من الحياة؟
هل نحن قوم لهم مثل عليا؟
هل نحن أمة لها إرادة واحدة؟
هل نحن جماعة تعرف أهمية الأعمال النظامية؟
ويتراءى لي أن هذه المسائل وأمثالها لا تزال ماثلة أمامنا ولن يكون لنا لون معروف ولا منزلة ثابتة حتى نكون قد أجبنا عليها أجوبة عملية».
تدخل هذه الأسئلة في سياق النوع الثاني، «التساؤلات اليقينية». فسعاده مقتنع بالرد الإيجابي (تساؤل العارف) وإلا لما كان أقدم على تأسيس الحزب بعد مخاض فكري وتنظيمي طويل في البرازيل أولاً، ثم في الوطن. وهو على يقين تام بأننا أمة حية، لها هدف من الحياة، وذات إرادة واحدة، ولها مثل عليا، وتعرف أهمية الأعمال النظامية. لكن طرح تلك الأسئلة في ذاك الوقت بالذات إنما كان يستهدف تحفيز السوريين الذين لم تكن قد تكشفت لهم بعد الحقائق المعرفية التي تنقلهم إلى الوضوح واليقين، وهي في الوقت نفسه دعوة للسير في ركاب النشاط النهضوي المتوقع.
لم تقتصر «التساؤلات اليقينية» على الشعب السوري فقط، ولا على المرحلة السرية. إذ نجد سعاده ينشر في جريدة «النهضة» بتاريخ 4 تشرين الثاني سنة 1937 مقالاً تحت عنوان «هل يُفلح سعاده؟»(7) واضعاً دوره هو على محك التساؤل والبحث. ولكنه في هذه المقالة، يقدم للقراء الرد الإيجابي المشروط: «ولكنه (أي سعاده) سيكون دائماً في حرب مع البيئة، ونصره يتوقف على صلابة عود معاونيه وتمسكهم بالأخلاق القومية الجديدة: أخلاق النهضة ــ أخلاق الثقة الراسخة المتبادلة ــ أخلاق الإيمان والمثابرة. أما أخلاق الشك والتردد فهي أخلاق فساد البيئة ــ أخلاق اللاقوميين. وما رجاء الأمة إلا بالأخلاق القومية».
ظل سعاده، طيلة حياته العاصفة، يطرح على الأمة السورية كلا النوعين من التساؤلات: «المعرفية» و«اليقينية». وهي نفسها التساؤلات التي تتردد في هذه الأزمنة القومية العصيبة، وتخفق في عقول القوميين الاجتماعيين وقلوبهم. وكما أن سعاده لم يتردد في أن يكون هو بالذات عرضة للتساؤل (اليقيني)، فإن من المهمات الملحة للعقل القومي الاجتماعي الجمعي أن يعيد صياغة الأسئلة ذاتها بصورة شمولية لا تستثني أحداً… حتى الحزب السوري القومي الاجتماعي نفسه! فالقوميون الاجتماعيون إذ يتوقفون عن طرح التساؤلات الوجودية يفقدون ميزتهم الأساسية، ألا وهي أن يكونوا منارة الأمة وليس مرآتها.
الهوامش:
1 ـ «الأعمال الكاملة ـ الجزء السابع»، صفحة 328.
2 ـ «الأعمال الكاملة ـ الجزء الثاني»، صفحة 9.
3 ـ المرجع السابق.
4 ـ «الأعمال الكاملة ـ الجزء السابع»، صفحة 312.
5 ـ «الأعمال الكاملة ـ الجزء الثامن»، صفحة 94.
6 ـ «الأعمال الكاملة ـ الجزء الأول»، صفحة 491.
7 ـ «الأعمال الكاملة ـ الجزء الثاني»، صفحة 233.