يُمكن لأيّة استراتيجيّة، لأيّة أمّة أو دولة، أن تتحقق بالحرب العسكريّة التي قد تخرج في بعض فصولها عن مضمون ومعايير ما تنصّ عليه بنود المعاهدات الدوليّة (اتفاقيّات جنيف 1949)، فتشهد وقوع مجازر أو ممارسات تُوصف بالوحشيّة… يمكن ذلك كلّه أن يحصل، وقد حصل غالباً، مع أيّة دولة ولأيّة دولة، إلّا مع إسرائيل التي لا يمكنها تحقيق وإنجاز استراتيجيّاتها وما تقتضيها إلّا بطريقة حصريّة: الإبادة الجماعيّة.
لا يعود خيار إسرائيل لطريقتها هذه، إلى «عقل مجنون» لقادتها السياسيين والعسكريين، بل إلى طبيعة هذا العقل، إلى المرجعيّات التي شكّلته وتتحكّم باتجاهه وما يصدر منه، كما يعود هذا الخيار إلى طبيعة استراتيجيّة المشروع الصهيوني نفسها ومحتوى هذه الاستراتيجيّة ومقتضيات إنجازها.
المشروع الصهيوني، بالأصل، مشروع مُصمم ومرسوم على ورق، ثم مجُسّم – «ماكيت»، أي هو مشروع افتراضي، لم ينتج من خلاصات الواقع الذي يتجه لإنجاز نفسه فيه، هو صنيعة «المخبر الأوروبي» وليس الواقع المحسوس وعلائق الجماعات المقيمة فيه وإلى جواره وما يمكن أن ينتج عنه نتيجة تفاعلاتها وصراعاتها المتعاقبة خلال التاريخ. الرجال الذين صمموا المشروع ورسموه كانت أدواتهم مشكّلة من أقلام، وألوان، ومساطر، ومماحٍ. لم يُولدوا في الأرض التي سيغتصبونها لاحقاً، لم يزوروها ولا يعرفونها، بل تعرّفوا عليها عندما بسط أحدهم خريطة الكرة الأرضيّة لينتقوا من أمكنتها ما يمكن أن يُسمى «وطناً» خاصّاً بهم، وبعد أبحاث ومداولات تمت المفاضلة الأخيرة بين الأرجنتين وأوغندا وفلسطين التي وقع الخيار الأخير عليها، لاعتبارات جيوسياسيّة من جهة، وبحكم حاجتهم للكتاب من جهة مقابلة، كتابهم «التوراة» الذي سبق وأثبت فعالية كبيرة مع المستوطنين الأوروبيين للعالم الجديد.
الأداء الباهر لـ (الكتاب – التوراة) في العالم الجديد الذي سيسمّى لاحقاً أميركا، ابتداءً من قدرته على التّحشيد، وصولاً إلى تسويغه عمليات الإبادة الجماعيّة باعتبارها «منهجاً إلهيّاً» لازماً لنيل (الأرض الموعودة)، إضافة إلى تزويده قادة المشروع الأوروبي في تلك الأرض المُكتشفة «البكر» بالسرديّات القصصيّة الضروريّة مع قاموس كامل من أسماء المدن والبلدات والمعارك أيضاً… مع هذا الأداء الاستثنائي، ينفي الكتاب عن نفسه صفة الخصوصيّة التي يدّعيها، بكونه لبني إسرائيل – اليهود «شعب الله المختار» حصراً، وبكون الأرض الموعودة هي أرض كنعان حصراً!
منذ 500 عام كان الكتاب نفسه لـ (بني أوروبا) الموعودين بأرض الهنود الحمر في الغرب، في العالم الجديد؟!
بهذا المعنى يُمكن معاينة ما ذهب إليه شلومو ساند، أحد المؤرّخين الإسرائيليين الجدد عندما اعتبر أنَّ « الصهيونيّة أمّمت الديانة اليهوديّة»، أي خصخصتها بمشروعها، فكل يهودي أينما كان سيكون صهيونيّاً حتماً وفق هذا «التأميم»، ولن يكون ليهوديته أي معنى خارج إطار المشروع الصهيوني. وعلى ذلك فُتح الكتاب واسعاً منذ أكثر من 150 عاماً، ولم يُغلق من حينها. منه استولّد الرسّامون الأرض – الوطن وتسميته، وأسماء مدنه وبلداته وجباله وأنهره… واستولدوا على الأخصّ (الحيثيّة) التي على أساسها سيدعون جماعتهم للانخراط في حركة لتحويل ما رُسم على ورق إلى واقع حي. حيثيّة ليست سوى كونها الوعد الإلهي (اليهوهي) بأرض كنعان!
من الكتاب نفسه، من أوامر «الرب»، من سرديّات «جماعته» (لن نناقش صحة هذه السرديّات وتأريخيتها وَمَن كتبها ومتى؟ …إلخ، بل ننظر إليها هنا من جهة علاقتها مع أصحاب المشروع الذين اعتمدوها) … من هذه السرديّات تم استيلاد تلك الطريقة الحصريّة للحرب مع الجماعات الأخرى: الإبادة الجماعيّة. لا يستوجب الأمر تأويلات للكتاب وفصوله وما ينطوي عليه، هو صريح واضح متفاخر بنفسه ومدجج بالقصص عن الأماكن التي أُحرقت ودُمرت وعن البشر الذين ذُبحوا والأقوام الذين أُبيدوا ولم يبق لهم أي أثر على هذه الأرض. سفر يشوع خصوصاً هو النصّ المؤسس لمنهجيّة الإبادة الجماعيّة.
منذ تأسيسه، يرسم المشروع الصهيوني استراتيجياته على إيقاع الكتاب، وكلما اصطدمت هذه الاستراتيجيّات بعقبات تكبحها، خصوصاً تلك الناشئة من مقاومة أهل الوطن المُغتصب، يعود قادته إلى الكتاب، لضبط الإيقاع مرة ثانية، يعودون للرسم الأول ما بين الفرات والنيل، ويعودون إلى روح يشوع وسفره، إلى الإبادة الجماعيّة.
وبذلك، لا يكتفي الكتاب بكونه الفضاء الدائم لاستراتيجيّات المشروع الصهيوني، بل وأيضاً وبدرجة موازية في الأهمية هو المُكوّن المرجعي المؤسس لعقل قادة هذا المشروع.
-2لا يُنظر، من وجهة نظر الصهيونيّة، إلى الهولوكوست كـ (حادث مفرد) وقع بتاريخ محدد، بل كـحقبة تاريخيّة ابتدأت مع صعود الحزب النازي إلى سدّة الحكم في ألمانيا في العام 1933 وانتهت مع هزيمة ألمانيا في الحرب العالميّة الثانيّة في صيف العام 1945. على أنَّ هذه الحقبة لم تبتدئ كـ (طفرة سياسيّة عقائديّة) مخالفة لملامح الثقافة الألمانيّة التي كانت سائدة آنذاك، بل يمكن تلمّس جذورها خلفاً نحو بدايات نشوء المسألة اليهوديّة والاحتدام (الألماني – اليهودي) المتصاعد في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، الذي شهد تبلّور الصهيونيّة وتأسيسها وإطلاقها كمشروع حامل للمسألة اليهوديّة.
مع بداية المؤشّرات الدّالة على اتجاه ألمانيا نحو الهزيمة العسكريّة، بدأت المداولات في الإدارات السياسيّة لدول الحلفاء تدور حول مستقبل ألمانيا ما بعد الحرب، أي: اليوم التالي. كان واضحاً عند الإنكليز والأميركيين، أنّهم يبحثون عما هو أبعد من الهزيمة وأقسى وأشدّ ألماً وأثراً على ألمانيا ومستقبلها.
الهزيمة العسكريّة، وإن كانت ساحقة، إلّا أنَّ رصيدها يظلّ في الحقل الجيوسياسي مع الحقل المعنوي المرتبط بالكبرياء والكرامة القوميّة والشرف العام.
يمكن تحديد منهج قادة الحلفاء في هذا المجال كما يلي: لا بدَّ من الانتقال من هزيمة ألمانيا عسكريّاً إلى هزيمة ألمانيا في وجودها ومعناه، في هويتها، وشخصيتها، ومرجعيّاتها، وتاريخها.
تقدّم وزير الخزانة الأميركي هنري مورغنثاو في النصف الأول من العام 1944 برؤيّة خاصّة باليوم التالي الألماني تحت عنوان: البرنامج المقترح لما بعد استسلام ألمانيا. سيُعرف هذا البرنامج لاحقاً باسم «خطة مورغنثاو The Morgenthau Plan – »، ثم سيعمد مورغنثاو إلى وضع هذه الخطة في كتاب نشره في العام التالي 1945 بعنوان «ألمانيا مشكلتنا Germany is our problem –» – العنوان يشير إلى ألمانيا وليس إلى النازيّة وهتلر – وإذا كان مورغنثاو في هذا الكتاب، لم يذهب إلى الحدّ الذي ذهب إليه تيودور كوفمان «وهو يهودي مثل مورغنثاو» في كتابه المنشور والمشهور في العام 1941 بعنوان: «ألمانيا يجب أن تهلك Germany must perish – ». حيث دعا فيه إلى إبادة جماعيّة للألمان من خلال التعقيم القسري، غير أنَّ مورغنثاو الذي دعا بوضوح إلى «اجتثاث النازيّة» استلهم في اقتراحه إحدى المنهجيّات التي تعود إلى الإمبراطوريّة الرومانيّة التي كانت تعمد إلى تحطيم النصب وتدميرها وجرف الرسوم والعلامات ومحو وإزالة أسماء من يتم تصنيفه عدواً أو خائناً للإمبراطوريّة، عُرفت هذه المنهجيّة باسم «دامناتيو ميمورياي – Damnatio Memoriae »، أي «محو الذاكرة» وإعدامها. (بعد مقتل الشاب الأسود جورج فلويد في 25 أيار 2020 على يد الشرطة الأميركيّة في مدينة منيابولس، استعادت رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي منهجيّة مجلس الشيوخ الروماني ودعت إلى إزالة أحد عشر تمثالاً لعسكريين ومسؤولين في الحقبة الكونفدراليّة… إزالتهم من ردهات مبنى الكابيتول. راجع مقال: هَدمُ أميركا!)
في خطته يقترح مورغنثاو تدمير البنيّة الصناعيّة الألمانيّة تدميراً كاملاً وعدم السماح بعودة التصنيع إليها إطلاقاً، مع تقسيم ألمانيا وتشتيتها وتوزيعها.
ورغم الخلافات التي شهدتها الإدارة الأميركيّة حينها حول هذه الخطة، ما جعل الرئيس روزفلت متردداً في الأخذ بمضمونها، إلّا أنَّ مؤتمر قادة الحلفاء في مدينة كيبك الكنديّة المعروف باسم مؤتمر كيبك الثاني – أيلول 1944) خرج بمذكّرة موحدة حول مستقبل ألمانيا صاغها الزعيم الإنكليزي ونستون تشرشل، اعتمدت في رؤيتها بشكل واضح على خطة مورغنثاو، وذلك بإقرارها مبدأ القضاء على الصناعات الحربيّة الألمانيّة وتحويل ألمانيا إلى «بلد زراعي رعوي».
بعد خمسة أشهر على انعقاد مؤتمر كيبك الثاني، وعلى مدى ثلاثة أيام متوالية، 13 – 14 – 15 شباط 1945، قامت 1300 طائرة قاذفة انكليزيّة وأميركيّة بقصف منهجي مركّز لمدينة درسدن Dresden – الألمانيّة، فدمّرت منها تدميراً كاملاً ما ينوف على مساحة تصل إلى 34 كيلو متراً مربّعاً يقع مركز المدينة التاريخي في وسطها. حينها لم يجد أي من القادة العسكريين وفي سياق العمليّات العسكريّة التي كانت جارية في ساحات المعارك، أية أهميّة استراتيجيّة لقصف المدينة وإحراقها بكم هائل من القنابل الشديدة الانفجار!
دون أدنى شكّ، يجد هذا التدمير مبرراته، في تلك القاعدة التي تقضي بضرورة هزيمة ألمانيا في معنى وجودها. فالقصف الجوي هنا يستهدف هذا المعنى تماماً، هو قصف للحياة الثقافيّة الألمانيّة وللتاريخ الثقافي الألماني حيث تُعتبر درسدن المثال المتكامل عن عصر الباروك الأوروبي في نسخته الألمانيّة، وتُكنّى بكونها «لؤلؤة عصر الباروك».
القصف هنا، يجد مرجعيته في منهجيّة «دامناتيو ميمورياي – لعن الذاكرة» فيستهدف الذاكرة الألمانية ومكوناتها، يستهدف تدميرها أولاً ليعود ويشكّلها على نحو مُختلف لا يمكّنها من العودة إلى ذاتها الأصليّة، هويتها. وهذه العمليّة تقتضي إنتاج ذلك الألم الشديد الرادع الكابح لأيّة استفاقة استرجاعيّة نحو اللقاء مع الشخصيّة الألمانيّة التي كانت، قبل هزيمتها، مرة ثانية.
أي، وبوضوح تام يجب دفن ألمانيا مع نهاية الحرب (يجب أن تهلك، كما كتب كوفمان)، وإنتاج ألمانيا أخرى مختلفة بعدها.
مضت حوالي 80 سنة على تدمير درسدن، التي أعادت إعمار وسطها التاريخي ولا تزال تحاول استعادة نفسها باستكمال إعمار ما تم تدميره فيها من «أيقونات معماريّة» … تحاول، نعم، لكن ألمانيا – الأمّة لا تزال، بالمعنى السيادي، تقيم في الهزيمة، آخر مثال يؤكد ذلك، سوقها كنعجة كسحاء إلى «مسلخ أوكرانيا».
سيستكمل هذا النسق المنهجي ذاته مع محاكمات نورن بيرغ (20 تشرين ثاني 1945 – 1 تشرين أول 1946) التي ستكون المِنَصّة التي فوقها، وبأعلى درجة من الاستعراض، ستدمُغ الذاكرة الألمانيّة بوشم «الهولوكوست – الإبادة الجماعيّة لليهود».
لا تأخذ محاكمات نورن بيرغ أهميتها هنا بوصفها، بالدرجة الأولى، محاكمة لقادة النازيّة الذين لم يتجاوز عددهم الـ (24) قائداً عسكريّاً وسياسيّاً، بل بكونها شكّلت المحتوى الذي تم دفعه داخل الذاكرة الألمانيّة المهزومة، محتوى محروس بتلك الآلام الكبرى الرادعة والكابحة لاستفاقتها وإعادة ترتيب مكوناتها.
الهولوكوست، بهذا المعنى، لا يقتصر مردودها على المشروع الصهيوني، بل هي سرديّة مطلوبة وضرورية لدول الحلفاء كلهم.
الهولوكوست
كان على الجميع، ودون استثناء أن يظلّ حاضراً عندهم ما لا يجب أن يُنسى من تاريخ الهولوكوست، الذي يتم سرد محطاته الكبرى ابتداءً من تلك اللحظة وإلى الآن ودون انقطاع:
ليلة الكريستال –Kristallnacht في تشرين ثاني 1938، عندما تم الهجوم وبأوامر من قادة النازيّة على جميع أمكنة ومحلات وبيوت ومقابر اليهود في ألمانيا، على أثر قيام الشاب اليهودي هيرشل غرينزبان باغتيال السياسي الألماني أرنشت فوم راث في باريس.
الحلّ النهائي، الذي وضعه أودولف إيخمان، ويستهدف وضع حل أخير للمسألة اليهوديّة، بقتل اليهود أو نقلهم وتهجيرهم قسراً.
أفران الغاز التي شهدت محارق كبرى لملايين اليهود الذين تم سوقهم إليها من أماكن تجميعهم.
سيتم تحويل الهولوكوست من (حادث تاريخي) إلى (مُقدّس) عابر للتاريخ، وذلك لتأمين جهوزيته الدائمة للاستثمار من قبل المشروع الصهيوني والدول المنتصرة على ألمانيا في الوقت نفسه، وستتم حراسة هذا المقدّس بتأمين حضوره الدائم في الذاكرة بفرض تلاوته في مختلف كتب التاريخ والتربية فضلاً عن الإعلام بتنويعاته، وبالقوانين والتشريعات الرادعة للتشكيك بأي حرف وارد في سرديته.
لا يوجد (مُقدّس) محروس بـ (جيش من القوانين) والتلاوات المكررة لسرديته مثل الهولوكوست.
فلسفة ما بعد الحداثة الأوروبيّة، التي اشتغلت بتفكيك السرديات الكبرى، بما فيها العائدة إلى عصر التنوير، لم تقترب لا من قريب ولا من بعيد من سردية الهولوكوست!
على هذا النحو، شكّل الهولوكوست بسرديته المحتوى الراسخ في الذاكرة الغربيّة واليهوديّة على السواء، على أنَّ «العقل المنتصر» لا يأخذ من الذاكرة هذه الرواية ليتلوها على المهزوم وحسب، بل يجد نفسه وقد استحوذ على الأسلحة المنهجيّة نفسها العائدة للمهزوم.
الحلّ النهائي، الإبادة الجماعيّة النازيّة، هي غنيمة حربٍ كسبها المشروع الصهيوني مع هزيمة ألمانية في الحرب العالميّة الثانية.
الحل النهائي، الذي تصدّر محاكمات نورن بيرغ، هو المنهجيّة التي خاضت فيها ميليشيات الهاغانا والشتيرن وغيرها حروبها التي أدت إلى النتيجة الثابتة: إما قتل الفلسطينيين، أو تهجيرهم قسراً، أو تجميعهم في مخيمات.
لكن «الحل النهائي» كان دائماً موجوداً في التاريخ… وسيبقى.
وفق الرؤية الصهيونيّة الخارجة من مطبخ الهولوكوست، يجب أن يعمل المشروع الصهيوني المستمر ما بوسعه على أن يظلّ الحل النهائي بحوزته، وأن يمارسه بحروبه ودون انقطاع.
-3-الآن، لماذا لاحقنا هذا المسار الاستدلالي على العقل القيادي الصهيوني؟
أحالت إسرائيل، ابتداءً من 8 تشرين أول 2023، غزّة إلى مكان غير صالح للحياة، وتمارس المنهجيّة نفسها في جنوب لبنان وبعض مناطقه الأخرى. تطلب من السكان المغادرة، وتلاحقهم إلى أماكن تجمّعهم لتقتل ما يمكنها منهم، وتهجّر من يبقى قسراً. تدمّر البنيّة التحتيّة تدميراً كاملاً، تقصف المدارس والمستشفيات وأماكن العبادة والمراكز الثقافيّة. تدمّر الأماكن التاريخيّة التي تشكّل «شخصيّة المدن» وملامحها المميزة، وتقصف الآثار التي تعود إلى مئات وآلاف السنين، في غزّة، والنبطيّة، وصور، وبعلبّك.
الأخطر في منهجيتها الراهنة: تجريف المكان المُدَمّر، أي إزالة المعالم التي يمكن أن تدل عليه كما كان. بالمعنى الحرفي، تحيله إلى رماد، تعيده إلى العدم.
تتجاوز إسرائيل في حربها الآن، ما يمكن أن تسببه الإبادة الجماعيّة، وما هدد به قادتها مراراً بأنهم «سيعيدون غزّة ولبنان إلى العصر الحجري». تأخذ بمنهجيّة (الحل النهائي) وتستبدل عنوان كتاب كوفمان من «ألمانيا يجب أن تهلك» إلى« فلسطين يجب أن تهلك» ولبنان يجب أن يهلك« …. وغبّ الطلب.
تعمل على إنتاج أعلى درجات الألم وأشدّه، بتجريفها لأرض المدن والقرى المدمّرة، أعلى درجات الألم التي تصهر الروح وتكوي الذاكرة. هي محاولة لتدمير الذاكرة على التوازي مع تدمير المكان، تحاول إسرائيل هزيمتنا في معنى وجودنا، في شخصيتنا وهويتنا. تحاول تشريد شعبنا وتشريد ذاكرتنا ووعينا بأنفسنا ومن نكون وما هو تاريخنا.
-4-إسرائيل محكومة بمعناها ومن تكون، محكومة بكتابها، محكومة بالمشروع الصهيوني، وطبيعته، وأهدافه، وغايته. وهي لذلك لا يمكن إلّا أن تأخذ وعلى نحوٍ حصري، بما وضعه القائد النازي ذات يوم وأسماه: الحل النهائي، غنيمة الحرب التي حازت عليها وشحنها» المشروع الصهيوني بعقل قادته مع قوافل المستوطنين الذين احتلوا فلسطين.
الحلّ النهائي يعني: إمّا تهجيرنا وإبعادنا قسراً، أو قتلنا.
-5لا زال قادة المشروع الصهيوني، يتحلّقون حول الطاولة نفسها التي عليها الخريطة التي رسمها أسلافهم، أدواتهم نفسها لا زالت هناك، من أقلام، وألوان، ومساطر، ومماحٍ.
قادة المشروع الصهيوني يواصلون التحديق في «ما كيت – مجسّم» تلك الأرض المعذّبة ما بين الفرات والنيل… يحدّقون… ودائماً على الطاولة نفسها توجد عدّة مطبخ الهولوكوست…. غنيمة الحرب، وسفر يشوع.
مقالة نشرت بالتوازي مع مجلة «سرجيل» الالكترونية