عاد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، في فوزٍ مُدوٍّ على مرشحة الحزب الديمقراطي للإنتخابات الرئاسية كمالا هاريس. عاد تسبقه تساؤلات ملحَّة تتعلق بسياساته المتوقعة، خلال السنوات الأربع المقبلة، تجاه منطقتنا وقضايانا خاصة وانعكاساتها على العالم عامة. حتى عودته إلى البيت الأبيض فيها ما يلفت النظر، ويضيف جديدًا إلى غرائب هذه الشخصية وعجائبها. فهو الرئيس الأميركي الوحيد، حتى يوم الناس هذا، الذي يعود إلى البيت الأبيض بعد انقطاع. كما أنه الوحيد بين رؤساء أميركا المتفرد بالفوز مرتين، في انتخابات الرئاسة، على امرأتين من الحزب الديمقراطي المنافس.
يُجمع كل من درس شخصيته، أو تعامل معه عن قرب، على أنه خليطٌ من المزاج الحاد المتقلب والنرجسية بنكهة عنصرية. ولعل البروفيسور دان ماك آدمز، المدرِّس في جامعة ويسترن الشمالية أهم دارسي شخصية ترامب من الناحية النفسية.
يقول البروفيسور آدمز، إن ترامب من النوع الذي لا يعترف بالهزيمة في أي شيء بحياته، ويعتقد أنه منتصر دائمًا. ويؤكد أنه نرجسي أصيل بدرجة كبيرة، يحب نفسه ويعشقها كأعظم شيء في الكون. لا يرى نفسه شخصًا عاديًّا مثل باقي البشر، ولا يمكنه التركيز على أي شيء سوى نفسه. وهو بالإضافة إلى ذلك، والكلام ما يزال للبروفيسور آدمز، متهور في علاقاته الخارجية، ويصعب التنبؤ بتصرفاته.
أما الصحفي الأميركي الاستقصائي الشهير، بوب وودورد، فقد خصص لترامب مساحات في كتابه الأخير «الحرب» مشيرًا إلى أنه ألف ثلاثة كتب عن رئاسة ترامب الأولى، وأجرى معه أكثر من ثماني ساعات من المقابلات. يقول بوب وودورد: ترامب لا يلتزم بالحقيقة، ومهووس بإعادة انتخابه. ويرى أيضًا أن ليس بمستطاعه التعامل مع أية أزمة حقيقية، وذلك قياسًا على إخفاقه في التعامل مع جائحة كورونا، خلال ولايته الأولى. ويرجح بوب وودورد، أن هذا الإخفاق كان السبب الرئيس لهزيمة ترامب أمام بايدن في انتخابات 2020. ويرى مؤلف كتاب «الحرب» أن ترامب الرئيس الأكثر تهورًا واندفاعًا في تاريخ الولايات المتحدة، ويُظهر الشخصية ذاتها كمرشح رئاسي عام 2024. ويورد بوب وودورد من الأدلة ما يؤكد إيمان ترامب بمبدأ «الضعف يولد العدوان»، بمعنى أن الضعفاء يغري ضعفهم الأقوياء بالعدوان عليهم.
فمن مآخذ ترامب على إدارة بايدن دعمها لأوكرانيا، لاعتقاده بأن هذا الدعم اهدارٌ لأموال دافعي الضرائب، وبأن أوكرانيا فاسدة، وانتصار روسيا أمر لا مفر منه. لكن عضو الكونجرس، الجمهوري ليندسي غراهام، استطاع التأثير في وجهة نظر ترامب خلال حديث بينهما بهذا الخصوص محذرًا من أن روسيا لن تكتفي بأوكرانيا، «ويمكن توقع المزيد منها… أنها ستصبح أقوى وليس أضعف…وإذا كافأناها بأوكرانيا ستلاقي تايوان المصير ذاته». حينها رد ترامب من فوره قائلًا:«بالفعل، الضعف يولد العدوان»، بالمعنى الذي بيَّنَّاه قبل قليل.
هذا بعض أهم ما قيل عن شخصية ترامب، بناءً على ولايته الأولى ولغاية اعلان فوزه في انتخابات الرئاسة الأميركية 2024. في المقابل، ثمة وجهة نظر آخذة في التبلور، لا تنقصها الأدلة هي الأخرى، ترى أن ترامب سيكون مختلفًا في ولايته الثانية. فالرجل متحرر خلالها من أية ضغوط، لأن الدستور الأميركي لا يسمح له بالترشح لولاية ثالثة. وهو صاحب شعار الإرتداد إلى الداخل بعنوان «أميركا أولًا». هَمُّه الرئيس الاقتصاد وخلق وظائف ومعالجة التضخم وإنعاش أميركا. ولا شكَّ أن تركيزه على الداخل الأميركي، يقلص مساحة اهتمامه بالصراعات الدولية والحروب المُستَنزِفَة لأميركا من دون عائدات. على هذا الأساس، جاء تأكيد ترامب في خطاب الفوز أنه لن يبدأ الحروب، بل سينهيها.
ولا يفوت أصحاب وجهة النظر المختلفة هذه التذكير بأن ترامب يتعامل مع السياسة بمنظور الصفقات، وكل شيء عنده بثمن. من يُرِد حماية أميركا ودعمها، بِحسبه، عليه أن يدفع، فلا مساعدات مجانية. وكان للصوت العربي المسلم، وخاصة في ولايتي بنسلفانيا وميشيغن دور حاسم في عودته إلى البيت الأبيض. وقد انعكس ذلك في خطاب فوزه أيضًا، حيث شكر العرب والمسلمين، ولم يشكر اليهود الذين صوت 77% منهم لصالح منافسته. وأتى للمرة الأولى على ذِكر العرب والمسلمين الأميركيين، كمكون رئيس من مكونات الولايات المتحدة.
على صعيد البؤر الملتهبة والساخنة، فقد وصف رئيس أوكرانيا، زيلينسكي، بأنه «أعظم بائع على وجه الأرض»، وأعرب أكثر من مرة عن شكوكه بقدرة أوكرانيا على هزيمة روسيا. وقال إنه لا يحتاج أكثر من 24 ساعة للتفاوض على إنهاء الحرب بين روسيا وأكرانيا، وسينجز ذلك قبل تنصيبه.
بالنسبة لغزة، حذَّر في أبريل الماضي من أن الكيان يخسر حرب العلاقات العامة في غزة، وأخبر مجرم الحرب نتنياهو في أيار المنصرم بالقول «احصل على نصرك، لأن القتل يجب أن يتوقف». هنا، نستحضر استياءَه الشديد من نتنياهو لتهنئته بايدن بفوزه في انتخابات 2020، ووصفه التهنئة بالخيانة.
بخصوص إيران، اتخذ مواقف متشددة تجاهها خلال ولايته الأولى، ترجمها بانسحابه من الإتفاق النووي. لكنه قال في حديث للصحفيين، في أيلول الماضي، إنه لا يمانع إبرام صفقة جديدة معها تمنعها من تطوير سلاح نووي.
ونحن نرجِّح، تأسيسًا على ما تقدم، أن يأخذ ترامب بتقليص الدعم الأميركي لأوكرانيا لقناعته بلا جدوى ذلك، واستحالة هزيمة دولة عملاقة مثل روسيا لديها سبعة آلاف رأس نووي. وبذلك، فإن أوكرانيا لن تجد قوى دولية قادرة على دعمها بالمال والسلاح، مما سيضطرها للتفاوض مع روسيا والقبول بشروطها لوقف الحرب.
أما الصين، فلن تختلف السياسات الأميركية تجاهها عما كانت عليه في ولاية ترامب الأولى، وبشكل خاص على صعيد إجراءات الحد من صعودها الاقتصادي والتكنولوجي. وقد كانت أكثر كوابيس ترامب آنذاك تَحَوُّل التِّنِّين الصيني إلى القوة الاقتصادية العالمية الأولى، متخطِّيًا الولايات المتحدة. ولا نستبعد أن يؤدي التوتر بين الدولتين الكبريين إلى اختبار قوة وتبادل فرض العقوبات، وربما اشتعال قضية تايوان فجأة. لكن مهما فعل ترامب، فإن الصين تتجه بثبات إلى أن تصبح القوة الاقتصادية الأكبر عالميًّا خلال سنوات رئاسة ترامب الثانية. ويرجح خبراء، منهم الروسي ألكسندر نزا وف، انهيار الدولار قبل الانتخابات الأميركية المقبلة.
بخصوص إيران، من غير المستبعد توصل إدارة ترامب الثانية إلى حل ما للتهدئة معها، لأكثر من سبب أهمها براعة الإيرانيين في المناورة وفي استخدام أوراقهم ونفور تاجر العقارات دونالد ترامب من الحروب وميوله البراغماتية.
ونأتي إلى مواقفه المتوقعة تجاه قضايانا، وهو أكثر ما يهمنا. نقول ذلك، وفي الخلفية نقل السفارة الأميركية إلى القدس وضم الجولان وصفقة القرن. في موازاة ذلك، إذا طرأ أي تحول في مواقف البيت الأبيض بخصوص القضية الفلسطينية، ولو في الحدود الدنيا، فالفضل للمقاومتين اللبنانية والفلسطينية، على وجه التحديد، وصمودهما الأسطوري وإفشالهما خطط العدو الصهيوني في تحقيق أيٍّ من أهدافه.
لكننا نخشى، في السياق ذاته، على انجازات المقاومة والشعوب العربية المساندة، من سياسات النُّظُم العربية السادرة في تنفيذ الإملاءات الأميركية والصهيونية عن سابق تبعية وتواطؤ وإذعان. حينها، سيرتفع منسوب قناعة ترامب بمعادلة «الضعف يولد العدوان» بالمعني الذي أنف بيانه، في التعامل مع العرب وقضاياهم لصالح الكيان الشاذ اللقيط.
توقعاتنا هذه مفتوحة على احتمالات الصح والخطأ بنسب معينة، في عالم يتغير، ولتعلُّقِها بشخصية تجتمع فيها النرجسية والتهور والمزاج الحاد المتقلب، وبالتالي، يصعب التنبؤ بتصرفاتها. إنها شخصية الرئيس الأميركي المنتخب لولاية ثانية، بدءًا من عشرين كانون أول المقبل، دونالد ترامب.