قيام الدولة – المدينة السورية
لنفهم هذه الفكرة (راجع الحلقة الأولى) ، يجب ان نتتبع مراحل قيام الدولة المدينية السورية الفينيقية (الكنعانية) التي صارت فيما بعد طرازا اخذ عنه الاغريق والرومان فالعالم.
وباكرا أي ابتداء من حوالي الالف الثالث ق.م.، عرفت فينيقيا الملكية الانتخابية، فالدولة الديمقراطية، التي هي” “دولة الشعب او دولة الأمة، هي الدولة القومية المنبثقة من ارادة المجتمع الشاعر بوجوده وكيانه”.
فالملكية كانت انتخابية دستورية، والملك (الذي في طينه ذهبا)، يجب ان يكون ” حاكما كاملا “، يتصف بالعناية والسهر على مدينته، ” حتى لا يريد اصحابهم في الوطن، ولا يقدر اعداؤهم في الخارج، ان يحدثوا أدنى ضرر للدولة”، فالملك يجب ان يكون قائدا قدوة لشعبه، فهو المسؤول الاول عن حماية المدينة، يتقدم جيشه في القتال، يقود الاسطول البحري في المعارك، يسهر على الأمن، يقيم العدل، ويؤدي الحساب عن اعماله امام الالهة وأمام مجلس الشيوخ، وإذا قصر الملك في واجباته عزل.
ومع ان العرش كان وراثيا، فليس من الضروري ان يرث الولد البكر والده إذا لم يكن اهلا للمسؤولية وفي هذه الحالة ينتقل الحكم الى الاصلح والانسب من اولاده، واذا كان قاصرا تضطلع الوالدة او الشقيقة بمسؤولية الوصاية، وكم من امرأة في تاريخنا تولت السلطة، فلم تقل شأنا ولا قيادة عن الملك، الى جانب احترامها كإلهة، وقيامها بدور “الكاهنة الكبرى”.
أما اذا خلت العائلة لسبب ما، من وجود شخص مؤهل للاضطلاع بمسؤولية الحاكم الكامل، فتنتقل السلطة الى عائلة اخرى، الى ملك (في طينه ذهب) ، حتى لو كان من عائلة مغمورة ( واذا ولد العامل اولادا ، ثبت بعد الحك ان فيهم ذهبا او فضة ، وجب رفعهم الى منصة الحكم، اصحاب الذهب حكاما، واصحاب الفضة مساعدين ). وهكذا كان الانتقال من الملكية الدستورية الى الدولة الديمقراطية ، انتقال حدث في ظروف طبيعية هادئة دون ثورة او نزاعات، حتى اذا خلت المدينة من حاكم كامل ، ابتدع شعبنا سلطة جديدة تؤمن ترسيخ الديمقراطية ، فغدا يرئس الدولة قاضيان واحد للادارة واخر للعدل ، يختارهم مجلس الشيوخ المنتخب من مجلس الشعب ، وعندما حاول مجلس الشيوخ في قرطاجة ان يحصر السلطة الفعلية في فئة منه، وقف في وجهه هنيبعل وسن تشريعا جديدا نزع بموجبه الحصانة عن هذه الفئة ، وأعاد السلطة الى مجلس الشيوخ الذي اخضعه للقانون والنظام ، وجعل مدة ولايته سنة واحدة، كما حظر التجديد لانتخاب القاضيين او أحدهما . هك
وهكذا، اعطى السوريون الكنعانيون العالم الدين الاجتماعي، الذي من أبرز خصائصه ما يأتي:
اولا: يقظة الوجدان القومي.
ثانيا: ظهور الرابطة القومية المؤسسة على فكرة الوطن، التي لازمتهم حتى انتشارهم خارج مدنهم- دولهم، فاذا بالعلاقة لم تنقطع، وإذا بالحنين لم يجف وهذا لم يكن شأن المدن اليونانية ومستعمراتها مثلا.
ثالثا: التفاهم والتقارب والتعاون بين المدن الفينيقية – الكنعانية الخمس والعشرين، الذي تبلور في قيام ” حلف ” في طرابلس، مثلا، بين جاليات ارواد، صور وصيدون للتباحث في الأمور المصيرية.
علما ان التنظيم السياسي في المدن – الدول الكنعانية دام مئات السنين، دون ان يتعرض لأزمات او حروب داخلية.
رابعا: الاخاء القومي، الذي عرفته تلك المدن، واقتنع به الحكام والناس (كلكم اخوان في الوطنية)، جنب هذه المدن بالرغم من عددها الحروب الداخلية، فلم تتحارب، بل ظلت محافظة على صفة الشعب الواحد المتضامن في الحياة، علما ان هذه المدن كانت تتحد إذا داهم احداها عدو خارجي، وكانت ” القيادة ” فيها تنتقل من مدينة الى أخرى، دون نزاع، او اقتتال، لان عقيدة ” ابناء الأرض” وروح الديمقراطية قد فعلتا فيها، ومهدت لقيام الثورة السورية الفكرية العظمى الاولى في التاريخ، والتي تحتاج الى دراسات متخصصة فيها.
وإذا كانت المدن السورية الكنعانية – الفينيقية قد تمكنت من المحافظة على صفة الشعب الواحد المتضامن في الحياة، للأسباب التي ذكرناها، والتي أدت الى تجنب الصراعات الداخلية، فان الحروب الداخلية التي شهدتها الدولة السورية القديمة خصوصا مع الاشوريين والكلدانيين، كان لها مدلولاتها القومية الخصوصية كانت تهدف الى توحيد الوطن السوري، من هنا أهميتها، بل ضروريتها في تأكيد الاتجاه القومي العام للمجتمع السوري الصاهر لمختلف الجماعات النازلة في بيئته وتحويلها الى مزاج، واحد، وشخصية تاريخية، واحدة.
الامة، بإيجاز هي أساس مادي يقوم عليه بناء روحي تحتل الدولة قمته
يؤكد علم الاجتماع وغيره من العلوم الاجتماعية والانسانية أن كوكبنا الانساني بمواده الطبيعية والبشرية لا يشكل أمة واحدة- مجتمعا واحدا- متحدا تاما، بل هو مجموعة من الأمم، كل أمة منها هي: ” جماعة من البشر تحيا حياة موحدة المصالح، موحدة المصير، موحدة العوامل النفسية- المادية في قطر معين يكسبها تفاعلها معه، في مجرى التطور، خصائص ومزايا تميزها عن غيرها من الجماعات “
الأمة، هذه، هي الأساس الطبيعي الحاضن لنشؤ الدولة وتطورها، وبلوغها هذه المرتبة الثقافية المتقدمة، ” وقد يكون من حسن طالع الدولة أن تتفق حدودها مع حدود الأمة، على حد ما ذهب اليه ماكيفر “
ولنا عودة الى التعليق على هذه الفكرة وتحليلها لاحقا، وذلك بعد تتبع نشؤ الدولة والمراتب الثلاث الرئيسية التي مرت بها.
فالدولة، قبل كل شيء، هي شأن من شؤون المجتمع المركب، بل هي أبرز مظاهره الثقافية – السياسية، حيث تقوم وظيفتها العصرية على العناية بسياسة المجتع وترتيب علاقات أجزائه في شكل نظام يعين الحقوق والواجبات
والدولة العصرية، لم تصل الى هذه الدرجة العالية من التقدم بين ليلة وضحاها، وانما مرّت بسلسلة طويلة من التطورات التي امتدت الى آلاف السنين، وهذا المنطق يقودنا الى تحديد بعض الأمور الجوهرية المتعلقة بالدولة، نشؤا وتطورا، وذلك من حيث واقعها وفوارق السلطة فيها، الى جانب اشكالها وطرائق ادارتها، وتتبع مراتبها، وتعاقب سلطاتها ابتداء من الدولة الاستبدادية وعهد الامبراطوريات الأولى مرورا بالدولة المدينة والامبراطورية البحرية والدولة الاقطاعية والأخرى الدينية وصولا الى الدولة الديمقراطية القومية. والآن لنلقي نظرة مختصرة على ما تقدم.
الدولة الأولية:
ارتبط واقع الدولة منذ بدئها بالقوة الفيزيائية التي تخضع او ترهب، وعهد الدولة في ذلك يعود الى ” النظام العشائري” حيث نجد صورة الدولة في قيام الرأس او الشيخ على العشيرة، كصاحب سلطة، او اداة تنفيذية، او قوة فيزيائية.
أما في فوارق السلطة، فنميز بين ثلاث وظائف:
تشريعية وتنفيذية وقضائية تقوم على ثلاثة أصناف ” سياسية” هي الجنس والسن والشخصية، ولا يعني هذا التقسيم، انه كان هنالك توزيعا لوظائف الدولة كما نعرفه اليوم، وجل ما في الأمر، ان وظائف السلطة ” العشائرية ” كانت تقابل بتشكيل ” الدولة ” من الشيخ او الأمير اضافة الى شيوخ القبيلة او العشيرة واجتماع الشعب.
وعرفت الدولة الأولية أشكال الحكم الرئيسية الثلاثة:
الديمقراطية وهي حكم الشعب، والاوتقراطية وهي حكم الفرد المطلق، والارستقراطية وهي حكم الاقلية المفضلة.
الا أن إدارة الدولة، في هذه المرحلة الأولية، وفي أشكالها السياسية المشار اليها أعلاه، فقد ظلت متأخرة جدا عن النظام الدستوري للدولة، التي شكلت الادارات وسجلت الحقوق القانونية، هذا الأمر الذي لاح مع بدء “الدولة التاريخية “، التي عرفتها الشعوب الثقافية.
ان عهد الحياة الانسانية بالدولة التاريخية بدأ في الأقوام الثقافية التي خرجت من العصر الحجري الى الآخر المعدني، مع الأقوام السامية في سورية (بابل وارض كنعان)، والحامية في مصر، وذلك عبر الانتقال من التنظيم العشائري (مرتبة الدولة الاولية) الى دولة الأرض، حيث تحول الامير ذي القوة السحرية الخرافية الى الملك الذي هو الاله او كاهنه الأعلى. فالآلهة هي التي أسست مملكتي فراعنة مصر وحمورابي وأسلافه، فهي (المملكة) لا تزول حتى تزول السماء والأرض، كما يقول حمورابي نفسه.
أما مظهر هذه ” الدولة التاريخية” فقد تميز بمثلث: الاستبداد، القوة والسيطرة، ” فقد طبعت الدولة التاريخية في بدء نشوئها بطابع الاستبداد لأن الدولة بطبيعتها قوة، والقوة تطلب دائما السيطرة ” وينقل سعادة عن عالم الاجتماع “طرليف شيلدرب ابه” قوله: ” ان الاستبداد هو المبدأ الأساسي للاجتماع الانساني والحيواني والنباتي، بل وللجماد أيضا…
ان الاستبداد هو الفكر الاساسي للعالم “. ولا غلو في هذا الامر، فانّ الدولة الشاعرة بقوتها في عهد لا ارادة ظاهرة فيه سوى ارادتها، اي غياب الارادة الشعبية، لم يكن لها خيار غير الاستبداد باستخدام القوة لفرض السيطرة، خصوصا متى علمنا أنّ هذه الدولة كانت امرا فوق متحدها، وتدعي سلطة ما ورائية، وقصدها قصد القوة السائدة المسيطرة، وتصريف شؤون الدولة أمر لا علاقة للشعب فيه، بل هو شأن متفق عليه بين الملك والاله المتجسّد فيه.
وما يهمنا من مبدأ القوة في نشؤ “الدولة التاريخية” هو في اتجاهها بهذا العامل الاستبدادي نحو التوسع الخارجي، نحو انشاء الدولة الامبراطورية التي كانت تمثل انتصار فكرة القوة في السياسة على فكرة العدل فيها. الا أنّه يلاحظ في مذهب التفرّد في السلطة سواء في مصر او في بابل السورية، الشأن الأعظم في تنظيم الدولة وترتيب أمور الامبراطورية، مما حدا بعلماء الاجتماع الى التأكيد على أننا نجد جذور الديمقراطية الحديثة في سلطة الفرد التي انقذت السيادة من مطامح الأقلية الممتازة، او كما يقول ميكور (Mciver ) على هذه الطريقة اعدت الملكية طريق الديمقراطية الأولى في التطور العام للدولة المدنية والامبراطورية البحرية، اللتان كان مسرحهما منطقة الهلال السوري الخصيب. حيث نشأت فيه مجموعة من الامبراطوريات البرية وهي: الأكادية، الكلدانية، الاشورية، الحثية، وتلك التي خرج منها ملوك الرعاة “الهكسوس”. كما يعود الى مدينة صيدا الفضل في تأسيس اول امبراطورية بحرية في العالم وقد بلغت أوجها في صور وقرطاجة. وما يهمنا، في هذه الدراسة، من أمر هذه الامبراطوريات العريقة التي انطلقت منها ” أم الحضارة ” الانسانية، هو الأهمية التي قدمتها الدولة- المدينة التي نشأت في سورية، برا وبحرا، من ثقافة حقوقية وسياسية رسّخت أصول الديمقراطية والجمهورية التي نحيا في ظلالها اليوم.