1. تطور مفهوم الدولة ـ الامة
ان تحديد مفهوم «الدولة ـ الامة» تغيّر وتطوّر في العالم اذا ما قارناه بتحديد هذا المفهوم في القرن السابع عشر. ولكن، ولسوء الحظ، لا يزال العديد من المثقفين العرب يعتمدون على التحديد القديم فيساوون بين القومية والعِرق، ويتكلمون عن الاعراق المتواجدة ضمن الارض الواحدة كالعراق أو إيران أو سوريا على أساس انها «قوميات» مختلفة، ويتغاضون عن التطورات الهائلة التي حصلت في مفهوم القومية خاصة بعد الحرب العالمية الثانية.
في هذا الإطار، من الجدير ابداء الملاحظات التالية:
أولا، من المهم جدا للعالم العربي اجمالا، وللمشرق العربي خاصة التمسك بمبدأ الدولة ـ الامة، لأنه خلاف ذلك هو في حال من الاندثار والتلاشي إلى اثنيات وطوائف متناحرة كما حصل في العراق منذ عقدين من الزمن، وكما يحصل في سوريا اليوم، وكما قد يحصل في بقية الدول العربية غدا.
ثانيا، ان مفهوم الدولة ـ الامة قد تم تعريفه سابقا بناء على اثنية معينة، لكن، من الممكن أيضا تعريفه بناء على تواجد شعب على أرض، وتآلفه وتضامنه بمعزل عن طائفته أو اثنيته، ذلك أن القواسم المجتمعية والاقتصادية والسياسية المشتركة تعلو فوق الروابط البدائية من قبلية وطائفية. هذا يعني أنه وبالرغم من أن بداية الشعور القومي في البلدان الغربية انطلقت من مبدأ الاثنية الواحدة، الا ان المواطنة استطاعت ان تساوي بين جميع السكان الذين يحيون ضمن دولة وحدود متعارف عليها بمعزل عن اثنيتهم.
ثالثا، الفكر «القومي»، أو الايديولوجيا التي تريد بناء المجتمع على ركيزة «الدولة ـ الامة» تسبق نشوء الدولة ـ الامة وليس العكس، اذ لا نجد في التاريخ البشري نشوء دولة قومية/وطنية تتبعها ايديولوجية قومية! الفكر هو الذي يؤسس ويؤدلج للمبدأ القومي كما لغيره من النظم الدولتية، لذلك من المنطقي تتبّع هذا الفكر بداية، ثم دراسة طريقة تطبيقه وتجسيده في الغرب من جهة، والعالم العربي من جهة أخرى.
2. المثال الاوروبي
عاشت اوروبا خلال القرون الوسطى تحت سيطرة الكنيسة الكاثوليكية وامبراطوريتها التي احتكرت الدين والمعرفة العلمية معا. وبالرغم من وجود ملوك على رأس الدول الاوروبية، الا انهم كانوا تحت رحمة الكنيسة التي باستطاعتها حرمانهم من دخول الجنة في الآخرة، ومحاكمتهم على هذه الارض أيضا تبعا لشرعية وشريعة الكنيسة الكاثوليكية الدينية.
ومن أجل التحرر من السلطة الدينية، لجأت الدول الاوروبية، وخاصة مثقفيها ومفكريها، إلى تراثها ما قبل المسيحي، فنفضت الغبار عنه، وتبنت الحضارة اليونانية ـ الرومانية كأساس لحضارتها (Greco ـ Roman civilization)، وأعادت الاعتبار إلى الفلسفة والادب والاجتماع والقانون الوضعي، موجهة هذا السلاح العلمي والعلماني في وجه تفرد الدين الكاثوليكي المسيطر على جميع أوجه الحياة البشرية، ما أدى إلى نهضة عمرانية ضخمة ومبتكرة أنهت القرون الوسطى المتخلفة علميا بفصلها وتمييزها ما بين الشؤؤن الدينية والشؤون الدنيوية المرتكزة على العقل والانتاج العلمي، وهذا ما سمي ب «عصر النهضة» (renaissance) أي البعث من جديد.
بداية الوعي القومي/الوطني الاوروبي برز من خلال انتشار ثقافة تعيد إلى العقل والمنطق دورهما الرائدين، ونبذ القدرية. وتجلت تباشير هذا المنحى في العالم العربي عبر ترجمة الكتب العلمية الاوروبية بكثافة ملفتة للنظر في الجزء الثاني من القرن التاسع عشر، من قبل مفكرين عرب اطلعوا على هذه المخطوطات وقدروا اهميتها، وباشروا بترجمة جميع أنواع الكتب من اللغات الانكليزية والفرنسية والالمانية إلى اللغة العربية، وسُمي عصرهم ب «عصر النهضة»، ونتج عن ذلك إعادة الاعتبار إلى اللغة العربية التي كان النسيان قد طواها فيما كانت اللغة العثمانية هي اللغة الرسمية في ارجاء العالم العربي. وما مكّن من انتشار هذه الكتب بين عامة الشعب استيراد المطابع، فأصبحت القراءة متوفرة للجميع بينما كانت حتى ذلك الوقت حكرا على رجال الدين وفئة الاقطاعيين الميسورة ماديا. لكن هذا التطور توقف في العالم العربي للأسباب التالية:
أولا، المفارقة الكبرى بيننا وبين تطوّر الغرب هي ان الدول الغربية عادت إلى تراثها ما قبل سيطرة الكنيسة الكاثوليكية، بينما تم دحض هذه العودة للبناء على أسس علمية عقلانية في العالم العربي، وجوبه أي رجوع إلى تراث ما قبل الدين الاسلامي لننهل من تاريخه القديم بالرفض.
ثانيا، في هذه المرحلة من التحولات الجذرية في الغرب، أي في اواخر القرن الثامن عشر، برزت مجموعة من المثقفين عملت بفاعلية على ترسيخ مفهوم الدولة ـ الامة، وتمييزها عن المجتمعات الاخرى، فكانت الثورة الفرنسية بدءا من العام 1789 المهماز الذي قاد إلى تحوّلات هائلة في اوروبا باتجاه الدولة القومية (الدولة ـ الامة)، حيث انتُزع حق الدين من أن يكون مصدر السلطات، واستُبدل بالشعب الذي له وحده قرار تقرير مصيره وشكل دولته وقوانينه، وهذا ما لم يحصل على أرض الواقع في أي دولة من الدول العربية حتى الآن، بل تشكلت تيارات دعت إلى القومية/الوطنية لكنها لم تستطع إرساء أي نظام ل«دولة ـ أمة» مصدر سلطاتها الشعب، لا الشريعة الدينية/الطائفية. وبينما تمحورت المرحلة الاولى عندنا حول وجود نخبة مثقفة تؤمن بوجوب الانتقال إلى مفهوم «الدولة ـ الامة»، لأنه بخلاف ذلك، سيؤدي ذلك إلى اندثارنا أمام قوى الامم الاخرى وجبروتها، تخلفت هذه النخبة العربية عن اقناع «الشعب» بمجمل فئاته من السير وراءها، والعمل على تحقيق الدولة الوطنية، واشعارهم بأنهم يجب أن يتضامنوا ويتحدوا ـ بمعزل عن دينهم وملتهم ـ ضمن هذه الدولة التي تجسد هويتهم الفعلية، كي يستطيعوا مواجهة الدول المستعمرة بنجاح.
ثالثا، نستنتج من هذا العرض أن بناء دولة ـ أمة لا يتم بنجاح الا بتبني الشعب لها كما حصل في الدول الغربية، وكذلك في دول الشرق الاقصى كاليابان والصين والهند فيما بعد. الا أن أحد الاستثناءات التي برزت أوائل القرن العشرين وتمايزت عن هذا المنحى، كان انتقال الامبراطورية العثمانية إلى مفهوم الدولة ـ الامة التركية بفعل الجيش الذي تدرب في المانيا واقتبس نظم الدولة الوطنية. قاد أتاتورك مواجهة الغرب والنظم العثمانية معا، فحرر تركيا من مطامع الحلف الفرنسي البريطاني آنذاك، ثم أستحوذ على السلطة بعد أن انتزعها من رجال الدين، وفرض بالقوة الدولة الحديثة المدنية التي تفصل بين الدين والدولة. (راجع مقالة عبد الحليم حمود «الشخصية التركية المركبة» الاخبار، 18 نيسان، 2025).